للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[قلوب جديدة]

تأتي النائبة من وراء الغيب مسرعة متوهجة تتوقد، ثم تنغمس في الدم فتسمع الحياة نشيشها فيه، وتضطرب الروح، وتتفرق النفس، ويتألم القلب، وتتبعثر الإرادة، ويحار العقل، ويكون مع ذلك كله أمل ممض نافذ يجعل الحي يستشعر معاني الموت وهو لا يزال حيا بعد. فالمصيبة بطيعتها توجد في الحياة حركة سريعة طائرة مخبولة تخرج الحياة كلها عن دستورها ونظامها بعنف وقسوة، فيعقب هذه الموجة المتلاطمة السريعة فترة خاملة بليدة تنقل الحي من جو إلى جو حتى يتسنى له أن يستقر ويهدأ. فإذا لم يقرر لنفسه هذا النظام الذي تتطلبه المصائب لم يزل في موج واضطراب وفزع وحيرة، وتتضاعف المصيبة الواحدة حتى تكون -من جراء عواقبها عليه- مصائب عدة.

وقد تنزل المصيبة بالرجل فينفتر لها ويتبلد عليها، ويستنيم في بعض أحزانها ولكنه لا يلبث حتى يشعر أن في دَمِه أصواتا تتداعى فيه كما يتداعى الجند إذا تفرق على ضربة عدوه في الميدان، يجتمع المتفرق ويتألف الشاذ وتتضام القوى، ويعود الأمر على أشده كأحصن ما كان. فإذا تداعى الدم، وزأر القلب، واهتزت الروح، وأصاخت النفس، وارتدت العواطف المنهزمة إلى مواقعها وحصونها من إنسانها، وجد الرجل كأن قلبا جديدا قد انتفض في صدره، فنفض المصيبة وأعوانها نفضة الطل عن غصن مورق.

والشعوب كالرجال، وأمرها كأمرها. والشعب إذا ابتلى ببلاء مصبوب عليه بمصائبه ونواكبه (١)، يستطيع أن يسترد ما يضيع من قوته في تيار المصيبة، وأن يستعيد شبابه الثائر مرة أخرى، ولكن الفرق بينهما هو فرق ما بين الواحد إذا استقل، والجمع إذا تعاون. فشرط الاستقلال الإرادة والنفاذ بها، وشرط التعاون


(*) الدستور -السنة الثالثة- العدد ٨٢٠، الأحد ٧ رجب عنة ١٣٥٩ - ١١ أغسطس سنة ١٩٤٠، ص ١.
(١) النواكب: جمع ناكبة، مثل النكبة.