في سحيق الأزمان والآباد التي لا يعلم مدتها إلا عالم الغيب والشهادة سبحانه، كان أبونا الشيخ، آدم -عليه السلام-، منجدلا في طينته، حتى إذا ما نفخ الله فيه من روحه، قام على رجليه حين قام، طيع الشفتين، مطلق اليدين، ممشوق القوام معتدله، مصورا في صورة تباين كل ما يحيط به من خلقه سبحانه. قام منذ أول نهضة نهضها على الأرض، و"القدرة على البيان" بعمليها في "الإبانة" و"الاستبانة"، مودعة فيه مُعَدَّة، مهيأة للعمل من فورها، ليتلقى "التكليف" منذ أول وهلة.
هذه هي النشأة الأولى في لحظة خاطفة مضيئة، شهدها رجل واحد، ثم ضاعت وأظلمت في غمرة الآلاف المؤلفة من الدقائق والساعات والأيام والليالى والشهور والسنين والقرون الغوابر والأحقاب. أسدل عليها الحجاب، واستسرت في أعماق الأزمان والآباد والدهور السحيقة. لحظة انتهت، وانتهى بانتهائها كل ما وجده آدم في نفسه، حين أدرك نفسه، إذ أبصر وسمع وعقل واستجاب للتكليف. انقطع كل أمل أن تبقى هذه اللحظة ميراثا متجددًا حاضرا واضحا في نفوس أبنائه إلى آخر الدهر. لم يكن لنا سبيل إلى علم شيء عنها بوسيلة من الوسائل، ولولا الخبر الصادق الذي لم يبق على ظهر هذه الأرض خبر صادق غيره لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لعجز العقل عن تصورها أو توهمها عجزا قاطعا لكل رجاء. والذي نقرؤه عن "نشأة اللغة" عند البشر، بحثا عن اليقين الذي يعين على تصور هذه اللحظة الخاطفة المضيئة، موسوم كله بالقصور والبطء والتردد والتسكع، مُغلَّف كله بالغموض والعجز والحيرة وتكاثف الظلمات. ولذلك، فكل تفسير يراد به الوصول إلى حقيقة هذه "القدرة على البيان" بعمليها في "الإبانة" و"الاستبانة"، سوف يظل محفوفا بأسباب الزلل،
(*) الثقافة، السنة السادسة، العدد ٦٣، ديسمبر سنة ١٩٧٨، ٤ - ١٧.