مضى زمن، مذ كان أحد من يلتصق بأيامه في أيام الأدب، وينتشط اختطافا من بعض أسباب هذا الأدب المسكين -يتكلم عن الأدب والفوضى وكيف يضرب أحدهما بعرق إلى الآخر. وقبل، فإن أضر ما ابتلى به الأدب وغير الأدب من العلم والسياسة والاجتماع وما علا وما سفل- إنما هو تلك الهنات الناشبة في أقصى الحلق، والتي تمتد وتطول وتعرض، وتلين على الحركة، والتي تسمى في لغة الناس باللسان.
ونحن الآن نريد أن نتسلل من فتنة هائلة وفوضى شاملة، بل نحن غارقون في هذين البلاءين إلى قريب من الاختناق فيجب على كل من حقق لنفسه معنى من معاني الأدب -على أصل ثابت قوى أن يدفع بنفسه في جهاد هذه الجنود الفاسدة التي تغزو عقول الناس في الشرق بأداة مهولة من الأدب الذي لا قيمة له في حقيقة العلم. وهذه الجنود هي بعض الآراء البراقة، وكثير من المراتب التي يلقى على درجاتها كل من ملك لسانا يتكلم به فتكلم وأطال، وعرف أن الحياء إن يكن في الأخلاق مَنْقَبة، فهو لطالب الشهرة والصيت مَثْلَبة ومَذَمة. وعلى ذلك فأنت ترى أكثر هؤلاء لا يستحي أن يتبجح بالجهل والخطأ والضلال والفجور، مادام ذلك مما يؤدي به إلى مدارج الذكر على ألسنة الناس من العامة وأشباه العامة. وإذا نُزِع الحياء كثر البلاء.
وقد رأيت أن أقدم بين يدي هذه الكلمة -أن الرأي ليس هو ما يقال، وإنما هو ما يبنى بناء محكما على دقة وتدبير ومراقبة، وأما القول فسهل على باغيه، دان لملتمسه، وليس في ظواهر الأشياء في الحياة ما يعسر على المرء أن يتخذ منه فصلا بل فصولا كاملة يلبس بها الحق على الناس تلبيسًا، يقف في مدارج
(*) الدستور -السنة الثالثة- العدد ٧٦٤، الثلاثاء ٥ جمادى الأولى سنة ١٣٥٩ - ١١ يونيو سنة ١٩٤٠، ص ١.