للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[مواقف. .!]

قبل كل شيء، ولكى أكون واضحا؛ وحتى لا يختلط الأمر على قارئ، أحب أن أقص القصة على وجهها. كنا في ذوات الثلاثين، نكتب معا في مجلة الرسالة في أول عهدها، فنشأت بيننا مودة ومحبة، ومضت الأيام، وهجر صاحبي الأدب؛ وانصرف إلى دراسة الفلسفة وتدريسها والكتابة فيها، فلم أنقطع عن متابعة ما يكتب، كان له في الأدب طريق متميز، وصار له في الفلسفة أيضًا طريق متميز؛ ولم يفتنى فيما يكتب إلا القليل فيما أظن. وتطاولت الأيام، حتَّى قرأت لأخي وصديقي الدكتور زكي نجيب محمود مقالة في مجلة "العربي". وكان يومئذ في الكويت، فلم أصبر حتَّى كتبت إليه رسالة أسأله فيها عما أراد بما كتب؟ كانت مقالة غربية على، لأنى وجدتها غامضة الأسلوب غامضة المعاني، وعهدى به كان أبدا واضح الأسلوب واضح المعاني، في الأدب وفي الفلسفة معا. فتفضل الصديق الكريم، ورد على برسالة يقول فيها: "ما دمت أنت قد رأيت المقالة غامضة غير مفهومة، فهي إذن غامضة غير مفهومة" أو كلاما هذا معناه؛ فعجبت لقوله، وساءني، فآثرت أن أسكت عنه! ومضت الأيام؛ وهيأ الله لي أن أزور الكويت، وهو مقيم يومئذ، وقبل أن ألقى الصديق الكريم، وقع في يدي كتابه "تجديد الفكر العربي"، فأخذت أقرؤه حتَّى فرغت منه، وتعجبت ما شاء الله أن أتعجب، فهو بهذا الكتاب قد ردنى إلى زمان قديم جدا؛ أبي زمان المراهقة الفكرية، أيام كنا نقرأ ونفكر بلا مبالاة. عجبت له كيف استطاع أن يعود القهقرى إلى صدر الشباب، بعد هذا الزمان الطويل من مفارقة الصبا! ثم سعيت إلى لقاء الصديق القديم؛ فلما لقيته كدت أسأله عن سر ذلك، ولكني طويت فجأة كل ما قام في نفسي، كما طويت ذلك الكتاب منذ ساعات، وقنعت بلذة المودة واللقاء بعد دهر طويل من الفراق.

ومنذ أيام، أخذت كتابه الجديد "المعقول واللا معقول في تراثنا الفكري"؛


(*) مجلة الكاتب، السنة الخامسة، العدد ١٧٠، مايو ١٩٧٥ - ص ٢٢ - ٣٦.