مازلت أُضحك إِبْلي كلما نظرَت ... إلى من اختضبت أخفافها بدم!
أسيرُها بين أَصنام أشاهِدُها ... ولا أشاهِدُ فيها عِفَّةَ الصنم
هكذا يقول المتنبي في صفة أصحاب السلطان الأدبي والسياسي من أهل عصره، ولا يزال هذا ينطق إلى اليوم على البلاد الشرقية والعربية إلا قليلًا قليلا. لقد أذكرتني أشياءُ رمت إلى ما كنت أَسُوس النفس على تناسيه ونبذه والتباعد عنه، ولكن صِناعة الأدب هي من بين الصناعات أشدُّها التحاما بالحياة. . . . لا، بل الأصول النفسية التي تقوم عليها وبها أسواق المجتمع الإنساني، وهي ترمي بالأديب في تنّور متسعِّر من نزاع الغرائز والشهوات والأحقاد، وهو بين اثنتين: إِما أن ينحط في هوى غرائزه التي تثيرها هذه النار الآكلةُ، فيفسد بفسادها، وإما أن يتحصن دونها، فيروض غرائزه الوحشية، حتى تألفَ وتنقاد لحكم العقل النبيل والعواطف السامية. فكذلك يوطن نفسه على الحرمان والألم والتفرد والوحشة. . . . ثم على الصراع الذي لا رحمة فيه ولا هوادة بين تَضَرُّم النزغات المستبيحة، وبين زهادةِ النفس المتورعة المطمئنة. وكان أحق الناس بالتسامي ومطاولة الغرائز في هذه الحرب الموقدة - الأدباء، فالأدب في أَصله تنزيهٌ للنفس وكبحٌ من جماحها، ورفق في سياستها، فإذا انقلب الأدب تضرية للوحوش الرابضة في الدم من الطبائع والغرائز، خرَج عن أصله وفقدت ألفاظه معانيها، وصارت أسواق الأدب تعتمد في معاملتها على البغي والظلم والعدوان والتهجم والاستبداد. وفقدت كل معاني الحرية والعدل والإنصاف والتمييز بين الخبيث والطيب، وهي أصول الفطرة الأدبية السامية.
إن الأديب الحر ينتفض تَقَزُّزًا واشمئزازا كما انبعثت روح حقارة المجتمع من
(*) الرسالة السنة الثامنة (العدد ٣٤١)، ١٩٤٠، ص: ١٠١ - ١٠٣