للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة

- ٣ -

" ذو الرّمة يخبر فيُحسن الخبرَ، ثم يردُّ على نفسه الحجّة من صاحبه فيحسن الرد، ثم يعتذرُ فيحسنُ التخلّص، مع إنصاف وعفاف في الحكم" أبو عبيدة

تتحدَّث الباديةُ بأسرارها حديثَ اللَّوعة الخالدة في ضميرها، فتحنُّ الرياح وتئنُّ من أرجائها، ويقفُ "غيلان" يصغى إليها حتى تجاوبها نفسه فتناجيها بأشواقِها إلى "مى"، هذه اللوعة المتنهّدة في سر حياتهِ، فيحنُّ مع الريح حنينها ويئنُّ أنينها، ولكن ميعةَ الصِّبا، وغرَّة الشباب، وبراءَة الروح من عذاب الحب، تأبى عليه كلها أن يحزن مع هذه الرياح الباكية حزنًا كحزنها يستهلك النفس في طغيانهِ وعتوه. فَرِحٌ غافل: قد وجد دنيا كان يقلقُ إليها، ينشقُّ عن أسى لاهٍ: إذْ تعذَّرت عليه دنياهُ وهو يتصبب إليها.

يقف "غيلان" وإن دمه ليتوهَّج متدفّقًا في مدافِعِهِ، وإن آمالهُ لتستقبلهُ من كل وَجْهٍ تومض إليهِ إيماضةَ البرق في حواشي السحابة السوداءِ، وإن خياله ليمثل لهُ ميًّا وأيامها جنةً ناعمة تتفيَّأ النفس من ظلالها متاعًا لا تنقضى لذتُه. وتجيشُ غوارب الشباب بين جنبيه متلاطمة يتكفَّأ بعضها على بعض، فتنبعث قوته بتيارها مريدة مصممةً راغبةً، لا تنثني عن هذا الهدف الذي نشأ أمامها ففتنها ودلّهها. فهو يريد "ميًّا"، ويريد من أجلها كل شيء. سيسمو إلى "مى" بنفسه وحياته وشعره، وسيمنحها النفس والشعر والحياة غير ضنين. سيذهب المذاهب فيها، سيطوى البيد كالطف في ضمير الليالي، وسيجتابُ الحضر كالشعاع في مسرح الشمس، وسيأتيها بثمار الحياة ناضجة تغرى وتنادى، فتستجيب لها "ميُّ" من أعماق روحها مشتاقة منقادة. سيقذف بنفسهِ في كل سبيل، لتردّد البيداءُ


(*) المقتطف، المجلد ١٠٣، يونيو ١٩٤٣، ص: ٤١ - ٤٧