أراد جماعة من الذين كتب الله عليهم أن يرتزقوا باصطناع السياسة، أن يعقدوا معاهدة بينهم وبين بريطانيا يقضون بها في أمر العراق على ما خيلت لهم أنفسهم وأنفس البريطانيين، ووقف بيفن يتعجبُ ممن زعم أنه يضع توقيعه الكريم على معاهدة فيها بخسٌ لحقوق العراق! وليس هذا بعجيب من ساسة بريطانيا، فقوام السياسة البريطانية هو الخداعُ، والإصرار على الخداع، وتسويغ الخداع، حتى يبلغُ الأمر مبلغ الصَّفاقة المهذّبة في عرف الساسة البريطانيين. ولسنا نلوم بريطانيا ولا ساستها على هذا المذهب القبيح، فهم إنما يترفقون إلى غاياتهم بما وسعهم من الدهاء والمكر، ولكنّا نلوم أولئك المتبجحين ممن راموا أن يكونوا أهل سياسة في هذا الشرق العربي أو الإسلامي، إذ يخادعون أنفسهم ويخادعون أهليهم عن فساد بين في أمر هذه المعاهدات، وهم بذلك إنما يدمّرون شعوبهم بما في أنفسهم من العجز واللجاجة وقلة المعرفة بسياسة الشعوب التي انبعثت من رقدتها مطالبةً بالحياة الحُرة الكريمة. ومصداق هذا ما وقع في العراق، فلم يكد يظهر طرفٌ من سر تلك المعاهدة الخبيثة التي أرادت بريطانيا أن تكبل بها العراق، حتى هبَّ الشعب الأبى هبة واحدة فقوض أركان تلك المعاهدة على رؤوس "بناة الإمبراطورية"، وعلى رؤوس أذنابهم من الساسة المرتزقة، فدل ذلك دلالة بينةً على عجزهم ولجاجتهم وقلة معرفتهم بسياسة الشعوب الناهضة المريدة للحياة والحرية.
وما الذي كانت تريده بريطانيا من تلك المعاهدة الباغية؟ كانت تريد أن تجعلها مثالا يحتذى في معاهدات تعقد بينها وبين مصر والسودان، ولبنان وسورية وجزيرة العرب واليمن وسائر بلاد هذا الشرق فجاءت ثورةُ العراق فزلزلت
(*) الرسالة، السنة السادسة عشرة (العدد ٧٦٢). فبراير ١٩٤٨، ص: ١٦٠ - ١٦٢