للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

إلى أين. . .؟

- ٣ -

[تتمة]

أخذ صاحبي كأس الماء في يده، وجعل يرشقها ببصره رشقًا حديدًا يلمح لمحًا تحت حواشي الليل، فكنت أرى وهج مقلتيه يكاد يتطاير تطاير الشرار بينهما وبين الكأس، وأدام نظره طويلًا إلى الماء وهو يقر شيئًا بعد شيء ويسكن، فكأني به كان يغمس نظراته الملتهبة في برد الماء، ليبترد من وقدة العاطفة التي تضطرم في داخله. وبعد فترة عب من كأسه عب الظمآن استحر على كبده العطشى، ثم فرغ فوجه إليّ، وقد برق وجهه، أو هكذا تخيلت ثم قال:

آه. . .! ما كان أبصر ذلك الأعرابي الظريف الذي عطش وضل عن الماء في بيدائه، فلما رمى به السير فأفضى إلى بئر عميقة عادية (١) قد بعد ماؤها، أجهد أن ينزف بدلوه من بعض مائها حتى بُلغ به وكاد يهلكه غؤور الماء، وبعد لأي ما استطاع أن ينزح من مائها ما يرويه، حتى إذا شرب وارتوى وأطفأ غلة الظمأ، حمل تلك الدلو بين يديه ينظر إليها ويقلبها كأنها بَنِىٌّ من صغار بنيه يرقصه ويداعبه ويقول:

أي دلاة نهل دلاتي! ! ... قاتلتى وملؤها حياتي! !

كأنها قَلْتٌ من القلات

فانظر كيف يفرح الرجل بأديم جاس (٢) غليظ متغضن موات! إنه يحبه، ويحرص عليه، ويرق له، ويدلّله دلالًا كأنه طفل يطفله ويرعاه. وما ذاك إلا أنها أداة يتخذها ليطفئ بها الغُلَّة التي يُؤَرِّثها حر الظمأ، لو هو فقدها في مجاز (٣)


(*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد ٣٦٤)، ١٩٤٠، ص: ١٠٤٤ - ١٠٤٦
(١) عادِية: قديمة، كأنها من عهد عاد.
(٢) جَسِىَ الشيء: أصبح قديما يابسا متغضِّنا.
(٣) مَجاز: جاز المكانَ وبه: سَلَكه وسار فيه.