نعم، هكذا يضمحل الرجل! وما تريد أنت إلى ذلك؟ إنك دائمًا تفجؤني بتمثال يتكلم بأفكارى التي أتكلم بها في غيب نفسي، أي شيء هو الرجل؟ هل تستطيع أنت أو من سواك أن يقرر للعقل حقيقة الرجل، وأن يمتهد لفكرته أصلًا لا يزول، فإن يخرج عنهما أو عن أحدهما انتفى في العقل أن يكون رجلًا حق رجل؟ هذا هو الغرور الذي يتهاوى فيه الناس ما داموا ناسًا يبغى بعضهم على بعض، فطرة ركبت في سر طبائعهم. إن هذا ليس اضمحلالًا وضعفًا بالمعنى الذي تتوهم، إنه ليس من قوة في الطبيعة إلا وفوقها قوة تحكمها وتصرفها، وخضوع قوة لقوة أعضل منها ليس يعرف ضعفًا فيمن يخضع، وإنما هو القانون الطبيعي الذي يستقيم به نظام العالم. إنه لا يقال للدوحة الفينانة العظيمة: أيتها المسكينة، لماذا تخضعين لسلطان الفصل الذي تساقط به أوراقك؟ أو لماذا هذا الحنين الدائب إلى قطرات من الغيث، وهذا الجبل أمامك يسفح عليه ماء السيل ثم ينقطع أعوامًا فلا يظمأ إليه فيحن كمثل حنينك إلى قطرات من الماء انقطعت بضعة أشهر؟ هذه طبيعة الدوحة، فإذا انقلبت طبيعتها إلى غير هذا الناموس قتلها الظمأ وتركها حطبًا يابسًا لمن يستوقد.
آه أيها الصديق! إنك لن تعرف الحقيقة حتى تستشعر قوة الآلام الملتهبة التي تترك الرجل يتزايل على الشوق والوجد واللوعة كما يتزايل جبل من الفولاذ قد تجوفته نار متضرمة من لهب جهنم. أبغنى قليلًا من الماء ثم أحدثك كيف اضمحل الرجل!