الركام المتكاثف بعضه على بعض من ظلام الليل. لم أرد أن أستثيره من هدأته التي يستريح إليها بعد هذا الجهد الهائل الذي كان يتدفق به في حديثه. لقد كان يعاني من هذا الحديث أشد مما يعاني الهارب السائر في وحشة الليل الصامت في غوْل الصحراء، وهو هائمٌ على وجهه تطارده من ورائه شياطين العذاب التي تريد أن تنتشطه (١) إليها بخطاطيف هائلة من الرعب والفزع.
كنت أرق له وآسى عليه، ويمنعني من الحديث معه مخافتي أن يكون ذلك مما يصرفه عن بعض الفكر الذي يتعذب بوساوسه وخطراته. نعم، إنه عذاب عقلي أليم، ولكنه على ذلك مما يعطى النفس بعض راحتها من عذاب الشك والقلق والحيرة. والحياة كلها صروف متعاقبة يراد بها السمو بالنفس على وجه من وجوه الألم. والألم وحده هو الذي يستطيع أن يصقل النفس الإنسانية صقلًا رائعًا، وبذلك يرد إليها حقيقة الإيمان المشرقة بالإطمئنان والتسليم. إنه حائر يشك في حقيقة ما يقع عليه فكره ولكن هذا الألم الذي يصارعه صراعًا عنيفًا لا رحمة فيه، هو نفسه الرحمة المهداة إليه، ليؤمن بعد ذلك إيمانًا لا يداخله شيء من الشك أن قلبه لم يخطئ، وأن أفكاره القلقة هي التي تخطئ وأنه ينبغي أن تقيد أفكار العقل الحائر بأغلال متينة من أفكار القلب المؤمن.
وتضربت في همسات الليل أفكاري فيه، وجعلت أستعيد في نفسي كل ما قاله لأرى من تحته المعاني التي تتهارب وتختفي بطبيعتها في ظل الألفاظ اللغوية المحدودة بمعانيها. كنت حائرًا في فهم هذا الصديق الذي يحدثني عن صديقه، وما صديقه إلا هو. وكنت ألمح هذا الجبل وهو يتخلع من أعضاده التي ينهض عليها ثابتًا قارًّا متساميًا يهزأ بالتلال القصيرة التي تطمح إليه بأبصارها، وجالت في نفسي أفكار وأسئلة لا جواب لها. يا رب! أهكذا يضمحل الرجل؟ وارتفع صوتي بهذا السؤال غير متعمد لذلك. فما هو إلا أن هبّ صاحبي من غفوة الفكر التي غشيته، فابتدرني يقول: