هكذا بدأ وقد نام كل ما فيه وخَضَع لسلطانها الذي لا ينتهي ولا يفتُر، ثم دبَّتْ في روحه اليقظة الجديدة فتجددت النفس المتغضنة ورقَّ شبابها، واستجمت قواها الشاردة بعد فترة كإغفاءة النائم في أنفاس الفجر الندى المتروّح بعطر الرياض النضرة. ولكنه عاد -بعدئذ- برجولته يتوحش، فارتدّ إليه حذره الوحشي يتوجس خيفة، وأخذه بذلك الرعب من كل مكان أين أنا؟ وكيف كان هذا؟ ولم خضعت؟ وإلى أين أسير؟ كل هذه أسئلة جعل صداها يتردد في نفسه، ثم يلقيها على الدهر الأصم، فلا يجد جوابها جميعًا ولا تأويلها. ويومئذ جعل يصول صيال الوحش يريد أن يجد الغيل المفرد الذي يفرض فيه سلطانه على جوه وغابه. . . ولكن وارحمتا له! لقد حق ما قلت يا صديقي: المسألة كلها قدر محتوم! رُفِعَت الأقلام وجَفّت الكتب!
أرأيت إلى ما وصفت لك منه أول ما تلاقيا؟ أرأيت إلى ذلك الوحش الآبد الحذر الذي لا يألف الحياة ولا هي تألفه؟ أرأيت إلى تلك الفكرة الباذخة العضلة التي تأبى أن تذلّ أو تتهضّمَ؟ أرأيت إلى البركان المتقلع في عنفوان فورته؟ كل ذلك قد استحال بين يديها، وتحت أشعة عينيها، وفي مس أنفاسها، شيئًا غير هذا كله. فكل ما توحش منه فهو عندها يألف وادعًا يلوذ بها خاشعًا متضرعًا، وكل ما بذخ وسما وتعضّل فهو يتطامن لها ويرق ويتلين، وكل ما تقصف منه وفار وغلى فهو ينساب إليها صبابة وحنينًا ولوعة.
* * *
وعندئذ سكت صاحبي بغتة كأن لسانه قد عقد عقدًا على ألفاظه، ثم تنهد واحدة كأنما انهدّ بها ركن من جبله القائم في ضمير نفسه. ورمى بصره في هذا