إني لأسألُ نفسي، كما يسألُ كل عربي نفسه:"إلى أين يسار بنا تحت لواء هذه الحضارة البربرية الحديثة؟ " وجواب هذا السؤال يقتضي العربي منا أن يلمح لمحًا في طوايا النفوس وخبايا السياسات، ويقدمَ الحذر بين يديه، ليكون على بينة من رأيه ومن مصيره أيضًا. ولعل القارئ قد فوجئ لإقحام هذا الوصف للحضارة الحديثة بأنها حضارة بربرية، ولكن لا يعجل بالعجب مما لا عجب فيه فإنه حق بيّن لا تخطئه العين البصيرة.
نعم! إنها حضارة لم يوجد لها مثيل بعدُ في التاريخ كله منذ كان آدم إلى يومنا هذا. حضارة قد نفذت إلى أسرار المادة فكشفت عنها كشفا يسَّر للبشرية أن تقبضَ على زمام الحياة وتصرِّفها في حيث شاءت وإلى حيث تريد، وجعلت الإنسان يشعر شعورًا لا خفاءَ فيه بأنه قادر على أن ينشيء التاريخ إنشاءً، ويبني الوجود بناء جديدًا، ويملأ ظلام الليل وضياء النهار حياة وقوة وجلالا، وينفث في الأشباح روحًا ويكسوها لحمًا ويعطيها من مقدرته ما يجعلها كائنًا متصرفًا بشيء أشبه بالعقل والإرادة. ونعم! إنها حضارة قد قامت أركانها على علم جم يعجز المتأمل عن إدراكه وبلوغ آفاقه، علم تدسس إلى ضمير الأرض والسموات فاسترق السمع إلى نجواه وإلى خواطره فقبس منها قبسًا مضيئًا أنار ظلمات هذا الوجود الَّذي لا يعلم ما انطوى عليه إلا الله الَّذي يعلم الخبءَ في السموات والأرض. ونعم! إنها حضارة أزرت بالحضارات كلها وجعلتنا نشعر بالقوة التي طواها الله في هذا "العالم الأصغر" حتَّى مكن له أن يكون سيد "العالم الأكبر" غير منازع.
نعم: إنها حضارة مجيدة عاتية، أحيت الإنسانية ورفعت شأنها، ولكنها على ذلك كله حضارة بربرية طاغية قد امتلأت فسادًا وجورًا وحماقة وفجورًا،
(*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد ٧٢٠)، إبريل ١٩٤٧، ص: ٤٣٩ - ٤٤١