للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

إلى أين. . .؟

- ١ -

جلست وصاحبي تحت جنح من الليل كأنه باز أسود قد طوى أفقًا من السماء في كهف من جناحه. وطمس هذا الليل الدامس ذلك الشعاع الذي لا يزال يبرق به وجه صاحبي كلما سكن ظاهره واطمأن. . . وبقيت نفسه من وراء ذلك السكون الوديع تتوقد بأفكارها المشتعلة، وترسل لهيبها يتلألأ على محياه ويتموج. وكان إحساسنا بمعنى الغارة الجوية، يثير النفس ثم يجثم عليها متثاقلًا بوطأته، فلا هو يجعلنا نثور فيخف ما نجد من ثقله، ولا هو يتركنا نهدأ.

وبقي صاحبي صامتًا لا يتكلم، ولكني كنت أكاد أجد الألفاظ والمعاني وهي تعترك في داخله وتتشاجر. أما إني ما رأيته -أو قل ما أحسسته- كاليوم. لقد كان كالعاصفة من اللهيب مكفوفة في محيطها، تدور وتتراكض، وكان هو هذا المحيط. لقد رحمته حتى كدت مرات أقوم إليه أضع يدي على رأسه، أقول: ذلك مما يخفض عنه بعض ما يغتلى فيه من سعير الفكر. ولكني كنت أهاب أن أشعره أني قد نفذت إلى بعض أسراره التي يريد كتمانها. فسكت معه ساعة أحتال في خواطرى لفض هذه الأغلاق التي يضربها على ضمير نفسه، فلست أشك أن بعض الحديث إذ اشتكى خفف وأراح.

لم تكن لي حيلة معه، ولكن طول الصمت بيني وبينه في ظل هذا الليل الأسود كان هو مفتاح هذه الأقفال الكثيرة. وكان الحجاب الذي أسدله دجى الليل هو الحيلة التي جعلته يقلق ويتململ في مجلسه يريد أن يستكتمني وهذا الليل سرًّا من القدر.

ثم سكت سكتة ظننت معها أن أنفاسه قد أبت عليه أن يتنفس بها. لقد كان يجاهد نفسه: كان هو يأبى أن يتكلم، وكان الذي يجده في صدره من الضيق يأبى عليه إلا أن يتكلم. كان نزاعًا هائلًا بين قوتين متحاربتين صارمتين عنيدتين


(*) الرسالة، السنة الثامنة (العدد ٣٦٢)، ١٩٤٠، ص: ٩٧٠ - ٩٧٣