متكافئتين، لقد أَثْبَتَه ذلك حتى كاد يتمزق. إني لأحس بل أسمع صوت التمزيق الذي يحدثه في نفسه هذا الصراع المخيف الرائع بين إلحاح هاتين القوتين في تنازعهما. ومضت الدقائق وأنا أعدها ساعات من عجلة النفس إلى تخفيف العذاب عن هذا الصديق البائس المحطم، والذي يأبى عليه عناده إلا أن يتجلد.
ولكنه ما لبث أن شق كثافة هذا الصمت المبهم بكلمة ضربت فيه:
لست أدري! ! لست أدري! !
لقد سمعت لكلماته في أذني صليلًا كما يَصِلُّ الحجر الصلد على ضربة معول من الحديد الصلب. لقد بغتني بصليلها حتى نسيت أفكاري فيه منذ أول الليل. ولكني سرعان ما اجتمعت لحديثه وأردت أن أحتال للتخفيف عنه ما استطعت. فقلت: وكأني أعلم خبء ما يشير إليه:
كلنا ليس يدرى. وهذه هي الحياة. إنك لا تستطيع أن تعرف الحقيقة حتى تخوض إليها الباطل خوضًا. إن الشك هو أعظم أعمال النفس الإنسانية، فإذا ما ابتُلى به الإنسان فهو بين نهايتين: بين أن يهتدى فيلحق بالذروة فيستوي على عرش من عروش الحكمة، وبين أن يضل ويتزايل فيتدَهْدَى على هذه الصخور الفكرية العاتية فيتحطم. وأيُّ ذلك كان، فالمسألة كلها قدر محتوم يا صديقي! رُفِعَتْ الأقلامُ وجفَّت الكتب.
لقد رأيت شرارتين تتطايران من عينيه في جوف هذا الظلام، ولكأني اقتدحتُ بكلماتي من النار التي تكمُن في تلك الصخرة الفكرية الململمة التي انطوت عليها ضلوع هذا الصديق المسكين. . .
ثم رأيته يرتد مرة أخرى إلى صمته وصراعه، ولكني كنت أشعر به وهو يلين ويتخشع من كل ناحية. لقد كان هذا الصديق قاسيًا عنيفًا، ولكنه كان رقيقًا أيضًا. وكان صبورًا، ولكنه ربما استكان للجزع، وكان مستوحشًا آبدًا، ولكنه ربما ألف وطاوع وانقاد، وكأنه لم يجمح مرة. وكان راسخًا شامخًا وطيد الإيمان، ولكني كنت أنفذ إليه أحيانًا فأجد الزلزلة التي في قلبه قد جعلته يتزعزع ويتطامن ويضطرب بعضه في بعض اضطراب الموج في تياره.