للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[علم معاني أصوات الحروف سر من أسرار العربية نرجو أن نصل إلى حقيقته في السليقة العربية (١)]

هذا بابٌ من أصول اللغة لم يَرْمِ إليه أوائلنا -رضي الله عنهم- إلَّا إشارة مبهمة ولمحة خافية أو نبذًا مهضومًا، فهم لم يجردوا لهُ أنظارهم، ولم يحتفلوا لتقصيهِ وتتبعه واستظهار طرائفه، وهم حين أشاروا أو ألمحوا أو نبذوا، لم يلموا إلَّا بأطرافه وحدوده، فلم يغمضوا في قلبه وسره ومعدنه ليستنبطوا منهُ أسراره المستكنة تحت ألفاظ العربية. ومعاني هذا الباب مما يقتضي القارئ فضل تدبر وصبر وتقليب وتثبت حتى ينفذ إلى حقيقته، ويستولى على ما يتعسر من أصولهِ، فإذا فعل فقد أدرك منهُ طرفًا صالحًا يستعين به على التوسع في معرفة حده وغرضِه ونتائجهِ، ويعيننا في تحقيق ما نرمى إليهِ من تفسير ألفاظ العربية بدلالة الحروف على معان أصلية ثابتة في طبيعة أصحاب السليقة العربية الأولى الذين تلقينا عنهم بيان هذا اللسان العربي المبين.

وأنا أريد بقولي "معاني أصوات الحروف"، ما يستطيع أن يحتمله صوت الحرف -لا الحرف نفسهُ- من المعاني النفسية التي يمكن أن تنبض بها موجة اندفاعه من مخرجه من الحلق أو اللهاة أو الحنك أو الشفتين أو الخياشيم، وما يتصل بكل هذه من مقومات نعت الحرف المنطوق. وليست المعاني النفسية -أو العواطف أو الإحساس- هي كل ما يستطيع أن يحتمله صوت الحرف، بل هو يستطيع أن يحتمل أيضا صورًا عقلية معبرة عن الطبيعة وما فيها من المادة، وما يتصل بذلك من أحداثها أو حركاتها أو أصواتها أو أضوائها أو غير ذلك مما لا يمكن استقصاؤه إلَّا بعد طول الممارسة لوحي الطبيعة في فطرة الإنسان، وبعد مدارسة اللغة ومفرداتها على أصل دقيق من هذا الباب، والاحتفال في كل ذلك للتدبر والاستقصاء ومداورة اللسان على مخارج الحروف مع حسن التفطن


(*) المقتطف، المجلد ٩٦، مارس ١٩٤٠، ص: ٣٢٠ - ٣٢٥