للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

من اسْترعَى الذئب ظَلم

في سنة ١٩٢٧ عرفت رجلًا إنجليزيًا، فنشأت بيني وبينه مَوَدة، وكان رجلًا حريصًا على أن يعرف أشياء كثيرة على وجهها الصحيح، وكان صادق اللسان فيما يبدو لي منه. وإن كنت قَلِقَ الشك في صدق اللسان الإنجليزي! وكانَ لطيف المعشر طلق المحيَّا، فيه دُعابة رقيقة لا تبلُغُ العُنْفَ ولا يتجاوز بها حدَّها. وبقينا معًا سنة كاملةً؛ فكان كأكمل الناس أدبًا، وأَزْكَنهم (١) عقلًا وأبعدهم عن الملاحاةِ والمغاضبة وسوءِ العشرةِ. كان إذا تقصَّى مِنِّي أمرًا أخلصتُه القول، فقد ظننتُ أني جرَّبْتُه وعرفته ونفذت في طوايا ضميره. وكان هو يحدّثني فلا أشكُّ أبدًا أنه كسائر أهل جلدته، بل كان خَلْقًا غير الخلقِ فيهم، فهو يقول ويعني ما يقول، وليس كأمثالهم يَتَسَلَّل من إهابٍ ليدخلَ في إهابٍ. ولم أزل أطمئنّ إليه وإلى حديثه وإلى بثِّه ما في نفسي ونفس بلادي مِنْ شعورٍ، فكان لا يتردَّدُ في إعطاءِ الحق لمن له الحق، ولا يرضَى أن يكونَ ظالمًا ولا متعنتًا ولا مدافِعًا بالعصبية أو الكبرياءِ أو المماراةِ.

وفي سنة ١٩٢٨ جاءت امرأتُه من بلادها ودعاني مرَّاتٍ فما لبثتُ أن رأيتُ هذا الرقيق الوديع المنصِف ينقلبُ خشنًا جريئًا على الباطل جائرًا في الحكومة، مُتعنتًا فيما كان بالأمسِ يعطي النَّصفةَ فيه، وإذا هو شديد اللَّدَد تيَّاه الخصومِة، وإذا هو ينسلخُ من إهاب ليدخلَ في إهابٍ كفعل سائر قومه، فكانَ ذلكَ آخر عهدي به، وكان من عاقبته أني كرهتُ هذه الإنجليزية العجيبة التي يقال فيها ما قال الشاعر: "كالعُرِّ يكمُنُ حينًا ثم ينتشرُ" (٢). فإنّ مجئ امرأته أعداهُ كما يُعْدى الجَرَب، فثار ما كمن فيه منه ثم اسْتَشْرى، فإذا هو وافِدُ قومٍ هُم ما هُمْ.


(*) الرسالة، السنة الرابعة عشرة (العدد ٧٠٤)، ديسمبر ١٩٤٦، ص: ١٤٣٥ - ١٤٣٨
(١) أزكنهم: أفطنهم وأكثرهم فهما.
(٢) العُرّ: الجَرَب.