للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[ساعة فاصلة. . .!]

إذا المرءُ لم يحْتَلْ وقد جَدّ جِدّه ... أضاع وقاسَى أمرَه وهو مُدْبِرُ

ولكن أخو الحزْمِ: الذي ليس نازلا ... به الخطْبُ إلا وهو للقصْدِ مبصرُ

فذاك قريع الدهر، ما عاش، حُوّلٌ ... إذا سُدَّ منه مَنْخِرٌ جاش مَنخرُ (١)

وأيُّ خطب! ! فنحن أمة قدِ عاشت أكثر من أربع وستين سنة تجاهد عدُوًّا لدودًا، واسع الحيلة، كثيرَ الأعوان، ينفثُ سمه حيث مشى، ويُخفي غوائله ليكون فتكه أخْفى وأنكى وأشدَّ. فاتخذ لنفسه من صميم هذا الشعب رجالا خدعهم عن عقولهم، وزيَّن لهم أن يعملوا في الدسيسة للأرض التي أنبتتْ عليهم شحومهم ولحومهم وحملتهم على ظهْرها هم وآباءَهم وأبناءهم وذَرَاريهم، وأظلَّتهم سماؤها بالظل الوارف الظليل، وسكَبَتْ في نفوسهم سرَّ الحياة، وسقاهم نيلها بدَرهِ الذي اشتدَّت عليه أبدانهم وأحوالهم، ومهّد لهم من المتاع ما أطغاهم، وكان خليقًا أن يملأ قلوبهم شكرًا، وألسنتهم حمدًا وثناءً. وزاد فأطلق في جنَبات هذا الوادي أسرابًا من صعاليك الأفاعي الأجنبية، أَخافت الوَادِع، ولدَّغت السليم، وذادَتْ عن سُهول هذا الوادي كل حيّ من أبنائه حتى ضاقت عليهم الأرض بما رَحُبتْ وضاقت عليهم أنفسهم. ولم يزل ذلك دأبنا ودأب عدوِّنا حتى أتاح الله الحرب العالمية الأولى فاستعلن من ضغينته وبغضائه ما اكتتم، وأعلن الحماية على أرض مصر. فلما خرج ذلك العدوّ من لأوائها (٢) منصورًا مظفَّرًا، لم يبال الشعب المصري العزيز بسطوة ولا بأسٍ ولا قوةٍ من حديد


= الرسالة، السنة الرابعة عشرة (العدد ٧٠٠)، ديسمبر ١٩٤٦، ص: ١٣٢٣ - ١٣٢٦
(١) قريع: فعيل في معنى مفعول، وهو الذي قرعه الدهر بنوائبة مرات حتى جرّب وتَبَصَّر. حُوَّل: الواسع الحيلة، يفتن فيها، فلا يُؤْخَذ عليه طريق.
(٢) اللأواء: الشَّدَّة.