تلقيت رسالة من بعض أصحابنا يسألنى فيها عن الطريق الذي ينبغي له أن يسلكه إلى دراسة الأدب، ويقول: إنه يجد في نفسه المعاني التي تجري وتتخايل والأحلام التي تزهو وتتزين، وأنه إذا رام الكتابة جرى فيها على طبيعته غير متوقف، ولكنه إذا قرأها -بعد أن يفرغ منها- وجدها أقل مما يحس به، بل هي ليست تعبر كل العبارة عما يحس به ويتمثل له من معانيه وآلامه وأحلامه.
وأنه قد أكثر القراءة لفلان وفلان من المعاصرين، ولكنه يجدهم لا يلقون في طبعه تلك الجذوة الخالدة التي تشتعل نارها إذا تنفست عليها النسمات التي ترتاحه وتهزه، وأنه يعتقد -أو يخيل إليه أنه يعتقد- أن هذا الذي يقرؤه لو كان حقا من الأدب الخالد لبعث في نفسه ما يبعث بخلوده من نفحات الخلود.
ويريد هذا الأخ الفاضل أن يدلنى على صدق ما ذهب إليه، فيبعث إلى بقطع من كلامه -ومن شعره أيضا- لأعلم أنه مطبوع على الأدب وإن كان يقصر بيانه عن إدراك الإجادة.
ثم يقول: فأرجو أن تمنحنى بعض وقتك، وتنظر في بعض كلامي على طريقتك في استخراج (نوع الأديب والشاعر! ! ) من تحت الألفاظ التي تجتمع له، والمعاني التي ينبعث طبعه إليها. ثم يأتي في كتابه إلى بكلام كثير، أستأذنه في إغفاله هنا، إذ ليس يجرى إلى الغرض الذي نرمى له أو الذي يريدنا هو أن نرمى إليه.
وقد قرأت الورقات التي كتبها فوجدت له روحا حرة حية متأملة تترقرق في كلامه، وأنه مطبوع على سرعة النظر وحسن الهداية إلى المعاني سريع النفوذ في أغراض القول، يتغلغل في بعض ما يفكر فيه بما هو فوق طاقة الفكر المجرد من
(*) الدستور -السنة الثالثة- العدد ٧٢١، الثلاثاء ١٥ ربيع الأول سنة ١٣٥٩ - ٢٣ إبريل سنة ١٩٤٠