للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

نافقَاء اليَربُوع

لي صديق، أطال الله بقاءه، يعيش في الدنيا وهو خارج منها. هذا غاية نَعْته وصِفته: "يعيش في الدنيا" وهو حريص عليها، لا حرصَ البخيل الذي يجمع المال، ولا حرصَ المستمتع المستهتر باللذات، ولا حرص الطامح الطامع في الخلود، كلا هو حرصٌ على حِدتِه وعلى حِياله لا يُشبهه في الناس إلا القليل. هو حِرصٌ على التعجُّب منها ومما فيها، وهو حرصٌ على النظر في الأشياءِ والحيرة في فهمها، واضحة كانت أو مبهمة، وهو حرْصٌ على استيعاب الحياة كما هي عند الناس من نُظرائه ومن غير نظرائه. ولا يخرجُ من كل هذا الحِرْص الشديد على الدنيا التي تحت عينيه إلا بطول التساؤل وبتنازُع الحيرة، وبالخوف مما كان ومما لم يكن. هذه واحدةٌ.

وعجيبٌ أنه أبدًا مولَعٌ بهذا الحرص وَلوعَ المحب بحبِّ جديد. وهو نفسه يعلم أنه حرص عقيم لا يجدي عليه شيئًا في معرفة الدنيا ولا في التثبُّت من شيء من أحوالها، ولكنه يزدادُ به على الأيام وَلُوعًا وكلفًا وغرامًا حتى يستهلك نفسه في السؤال والبحث والتقصّي عن أشياءَ لا تغني عنه شيئًا، ولا يغني عقله في إدراكها، ولا يغني قلبه في الإيمان بشيء منها. وهو يأبى أن يُلْقى عن كاهله هذا العبءَ الثقيل الفادح، وإن كان يثق كل الثقة بأنه شيء لا جدوَى من حَمْله، ولا من الصَّبر على بلواه. هذه ثانيةٌ.

وثالثة الأثافي، كما قال أسلافنا، أنه إنسان حيٌّ النفس قابلٌ للتلقِّي، فكل شيء من حوله يثير في نفسه الفضول، وينشُر عليه ذلك الحرصَ الشديد على المعرفة، مجديةً كانت أو غير مجديةٍ، لا يبالي، فإذا هو كالمغموم إذا اعترضه ما يعوقُه عن الاستقصاءِ. وأشدُّ من ذلك هولًا أنه لا يكادُ ينسى شيئًا مما ائتمنَته نفسه على استقصائه، إذا قطعه ذلك العارض البغيض إلى نفسه، فإذا عادَ إلى


(*) الرسالة، السنة الرابعة عشرة (العدد ٦٩٨)، نوفمبر ١٩٤٦، ص: ١٢٦٩ - ١٢٧٠