يستطيع الآن قارئ مجلة العربي أن يطمئن، لأنى وضعت بين يديه قضيتى أنا صغيرا، وقضية جيلى الذي سميته "الجيل المفرغ"، وأن أمر "تفريغ" هذا الجيل الذي أنا منه من ثقافة أمته ومن أسس حضارته التي ينتمى إليها، منسوب كله إلى الاستعمار وقوى التخريب المختلفة التي سيطرت عليه، وعلى مجتمعه، وعلى مدارسه، ونشأته مفرغا غير قادر على مجرد الفهم لثقافة أمته العظيمة التي صار هو خلفا، لا يطيق الصبر على ما تركه له السلف من آبائه، لا بل لعله يرفضه بتظاهر وتعالم وسخف أيضا. أليس هذا واضحا جدا فيما اختصرته لك بألفاظه من مقدمتى لكتابى عن "المتنبى"، والتي جعلتها أساسا لقصة هذا الكتاب الذي نشرته في يناير سنة ١٩٣٦، وجعلتها أيضا صورة لفساد حياتنا الأبية؟ أليس واضحا؟
وهذا الجيل "المفرغ"، هو الجيل الذي تلقاه الدكتور طه في الجامعة منذ سنة ١٩٢٥ وأنا واحد منه، فشهدت شهادتى عليه ثم قلت إن الدكتور -حين تلقى هذا الجيل المفرغ والأجيال التي تليه من المفرغين- أخطأ خطأ شنيعا، حين قال له ما قال في قضية الشعر الجاهلي، وبالصورة التي قالها مثبتة في كتابه الشعر الجاهلي، وفي كتابه المعدَّل الأدب الجاهلي، ثم تهوره (وأنا آسف لهذا التعبير، ولكني لا أجد غيره مناسبا)، ثم تهوره حين طالبهم باتباع ما زعمه مذهبا وأنه هو الذي سوف يقلب العلم القديم رأسا على عقب، "وأخشى -إن لم يمح أكثره- أن يمحو منه شيئا كثيرا"، كما قال في كتابه في الشعر الجاهلي ص: ٣.
ثم قلت بوضوح إن الدكتور طه قد تبين هذا الخطر الذي تولى كبره، بعد تسع سنوات لا أكثر، فكتب أو أملى، شهادة على هذا "الجيل المفرغ"، بعد أن فارق الجامعة، وبدأ يسامى الأساتذة الكبار، وفيهم الدكتور نفسه، ويجابهه برفض كل شيء. كتب الدكتور طه هذه الشهادة في سنة ١٩٣٥ على هذه الأجيال المفرغة، فكانت شهادة من أستاذ كبير، شهدها من موقع الأستاذية،