للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[في الماضي]

كنت أتمنى أن يكون لي مكان هذا القلم الأصم قلم حي نابض يصحبني حيثما سرت، ويلهمه الله من دقة الحس ما يجعله يتلقف كل خاطرة تومض في أعماق نفسي، ويشعر بكل هاجس يعتلج في سر ضميري، وإلا فإن الكاتب ذا القلم أعجز من أن يطيق لمّ هذا الشعث المنثال المتتابع من الخواطر والهواجس التي تنتابه وتعتريه وهو يرى أو يسمع أو يفكر. وفي هذا اليوم بعينه كنت أشد الناس ضراعة في التمني أن لو أتاح الله لي مثل هذا القلم النابض الحي حتى يأخذ عني وعما يحيط بي، ويسجله قبل أن تمسحه عن قلبي يد الدقائق والساعات التي جعلها الزمن رصدًا على الأفكار تمحوها بالنسيان، أو تطمسها بالفتور، أو تعفيها بتراب الحوادث التي تجد في كل لحظة من لحظات العمر.

* * *

خرجت أنا وصديقان لي، هما الأستاذ علَّال الفاسي الزعيم المراكشى الصابر على لأواء (١) الجهاد في سبيل بلاده، والأستاذ يحيى حقى القصاص المبدع في زمن ليس للإبداع فيه قيمة ولا قدر، وكان الذي دعانا إلى هذا الخروج فنان كهل قد ودع الصبا ولكنه تشبث بعطره ونفحاته وتوهجه، فلا تزال تشم من فنه حين يتحدث عنه شذًا لطيفًا من عنفوان الصبا والشباب، وذلك الفنان هو الصديق الأستاذ حسن فتحي المهندس الذي أبى أن يتعبد للهندسة، بل أرادها أن تكون عبدًا له يخدم فنه الذي يعيش فيه ويعيش به.

كان يوم الأحد السادس عشر من رمضان سنة ١٣٦٦ يومًا قائظًا ومدًّا (٢)


(*) الرسالة، السنة الخامسة عشرة (العدد ٧٣٦)، أغسطس ١٩٤٧، ص: ٨٦٠ - ٨٦٢
(١) اللأواء: الشدة والبأس.
(٢) المد: الماء، يعني رطوبة الجو.