للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

بين جيلَين. . .!

انتفض شعر المتنبي فرمى إليَّ بهذين البيتين، وهما على بساطة لفظهما كالجبلين الشامخين في تاريخ الحياة الإنسانية:

سُبِقْنَا إلى الدنيا فلو عاش أهلها ... مُنعنا بها من جَيْئة وذُهوبِ

تملَّكَها الآتي تملُّك سالبٍ ... وفارقها الماضِي فِراق سَليبِ

أفليس لمَلك الموت من عَملٍ إلا إخلاء الطريق للقادم، حتى يتاح له أن يغدوَ ويروح في الأرض التي ورثها عن السابق الذي مهَّد له بمواطئه سبيل الحياة! ! ولعلّ ملك الموت يَحارُ أحيانا حيرَة تديرُ رأسه في الأمر الذي حمل أوزاره، وكُلف بقضائه، ولعله يرى أحيانا أنه يزيلُ خيرًا كثيرًا ليخلُفه شرٌ كثير، فهو تَرَدُّدُ المتحسر على ذاهب هو [أَوْلَى] (١) بالبقاء من قادم، ولكنه يقضي قضاءه الذي لا يجد عنه مَنْدُوحَة ولا مهربًا؛ وهو ككل صاحب صناعة قد أَلِفها ودرِب بها ولا يجيدُ سواها؛ فهو يعيش بها على الرضى وعلى السخط، على الفقر والغنى، وعلى الفتور والنشاط؛ وهو كسائر الخلق مُيَسَّرٌ لما خُلق له، ولو تُرك له أن يختار لاختار قديما كثيرًا على جديد كثير، ولآثر ناسًا على ناس وحياة على حياةٍ. ولقد أرثى أحيانًا لهذا المخلوق البائس الذي يسرهُ الله لصناعة الإفناء والإهلاك، فإنه ولاريب يرى ما لا نرى ويحس ما لا نحس، ولربما كلَّف أن يقبض الروح من زهرة ناضرة لم تكد تستقبل الحياة. فهو يذوب لها رقة وحنانًا لما سوف تتجرعه من غُصصه وسكراته وحشرجته ومكارهه، فكيف يقسو على من هو بالرحمة أولى، وبالبقاء أخلق من أُخرى لم يُبق فيها العمر المتقادم إلا الأعوادَ والأشواك والجذور التي ضرَبت فيها الآفاتُ، وبَرِم بها البِلَى من طول مُرَاغمتها له على العيش!


(*) الرسالة، السنة الرابعة عشرة (العدد ٦٩٢)، أكتوبر ١٩٤٦، ص: ١٠٩٩ - ١١٠١
(١) لم يبق من الأصل إلا هذين الحرفين: لي، فجعلتها كما ترى.