للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أول الأمر قلت: "وأنا أخشى أن أقترب من لفظك في زينته، لأنى إن فعلت ذلك، سقطت فجأة في جوف المنطقة الملتهبة، منطقة الجدل والصراع العقلي". لن أفعل، فالأمر كله بعد ذلك إذن مفوض إليك ظلمتَ أو أنصفتَ. وهذا التفويض أقل ما يجب عليّ من حقوق صداقتك لي ومودتك.

* * *

[تاريخ "التذوق" عندي]

أنت متذوق للشعر، وأنا متذوق للشعر، وآلاف مؤلفة من المثقفين وغيرهم، قديما وحديثا متذوقون للشعر، أوه، نسيتُ، وحتى لا أُعَدّ متجنيا أو مقصرا، والدكتور طه حسين أيضًا متذوق للشعر. و"التذوق" عند جميعنا قائم في النفس، ولا يجمع بيننا في الحقيقة إلا هذا اللفظ "التذوق". أما وسائل "التذوق" وأسبابه وطرائقه وأساليبه، فمختلفة بيننا اختلافا يكاد يبلغ من الكثرة عدد المتذوقين. ولا يستطيع أحدنا أن يلزم الآخر بما يجده قائما في نفسه من وسائل "التذوق" وأسبابه وطرائقه وأساليبه. هذا مستحيل إن شاء الله، وكل ما يمكن أن يكون، أن يقع من جميعنا، أو من بعضنا، اتفاق على مظهر أو أكثر من مظاهر "التذوق"، وعلى غير تواطؤ منا أو من بعضنا. أما الاتفاق على طبيعة "التذوق" وعلى وسائله ودرجاته وأبعاده، اتفاقا قاطعا لكل شبهة اختلاف أو تباين أو تضاد، فهذا ما لا يكون البتة. وهذا تفسير آخر يزيد ما قلته قديما وضوحا، إذ قلت في المقالتين السالفتين: "إن التذوق معنى عام مشترك الدلالة بين الناس جميعا، وهو يقل ويكثر، ويعلو ويسفل، ويصقل ويصدأ، ويجود ويفسد، ولكنه حاسة لا غنى عنها للإنسان" (١)، وقلت أيضًا: "إن التذوق لفظ مبهم مجمل الدلالة، ولكل حي عاقل مدرك منه نصيب يقل ويكثر، ويحضر في شيء ويتخلف في غيره، وتصقله الأيام والدربة، وترهنه جودة المعرفة والصبر على الفهم والمجاهدة في حسن الإدراك" (٢).

وقد فرغت في المقالة السالفة من الدلالة على أن لفظ "التذوق"، مصدر


(١) انظر ص ١١٢٤ من هذا الجزء.
(٢) نفس الجزء ص ١١٢٤ - ١١٢٥