المبين المستجاد، فسموه "النثر"، اختصارا. ولذلك فلفظه في أكثر اللغات مأخوذ من لفظ يدل على نقض الشيء أو تفريقه وتغيير نظامه وحركته، لأنهم حين وضعوه اصطلاحا موجزا، كانوا ينظرون بعين إلى ما يتميز به "الشعر" من التناسق والتوازن والاتساق وإذا تأملت هذا بعض التأمل، لم تجد لما يسمونه في زماننا:"الشعر المنثور" معنى يفهم، لأن لفظ "النثر" مغن عن ذلك كل الغناء، ولأنه ممكن أن يحتمل "النثر" كل ما يحتمله "الشعر" من معان وخصائص، ولأنه لا يزيد عندئذ عن أن يكون "كلاما بليغا مبينا" قد استعار من ضريعه وقسيمه بعض ما جدَّ عنده، ثم ظل، كما كان، مفارقا ذلك الضرب من "الكلام" الذي يقتصر فيه الناس على التفاهم والتعايش وقضاء الحاجات.
وإذا كان ذلك كذلك فلفظ "الشعر" إذن، ليس يدل دلالة صريحة على معنى من المعاني المجردة، بل هو في حقيقته: حروف مركبة في كلمات، وكلمات مركبة في جمل، جمل مقدرة التناسق والتوازن فيما بينها ولكنه ينفرد عن (النثر) بعدئذ، بضرب خاص من التناسق والتوازن مقدر محدود، يكمن في سره نَغَمٌ متساوق يتحدر في تركيب الحروف والكلمات والجمل. وهو بهذا التكوين المتميز الذي يفرق بينه وبين "النثر"، أي "الكلام البليغ المبين" تنتظم فيه المعاني المختلفة الوجوه والغايات، نابعة من أقصى أغوار القلب والعقل والنفس وتجارب الحياة. وهذا قدر كاف في الحديث عن "الشعر" بل لعل قليله كان يغنى عن كثيره.
[القول في "التذوق"]
فإذا عدنا إلى قولنا:"تذوقَ الشعر" أو "تذوقتُ الشعر"، فإن بديهة اللغة وبديهة متكلميها تسقط عن لفظ "التذوق" هنا عملَ الجارحة، وهي اللسان، فيغرق الحدث أي الفعل الذي يدل عليه عندئذ في الإبهام، وينعدم معه التعين والتميز، وتعلقه هنا بلفظ "الشعر"، وهو على كل حال أشبه بأن يكون معنى من المعاني لا جسم، ولا تعمل فيه جارحة بعينها من الجوارح، فهو بذلك لا يستطيع