أن يكسب لفظ "التذوق" شيئا يعين على توضيح بعض إبهامه، أو يَسْتَحْيي شيئا مما انعدم من تعينه وتميزه. وكذلك ترى أن "التذوق" هنا حدث (أي فعل) واقع في صميم الحالة الثانية التي ذكرناها آنفا، أي في صميم الغموض والإبهام الذي انعدم معه التميز والتعيين. وأصبحنا نحتاج إلى إعادة النظر في دلالة هذا التركيب.
ويحسن هنا أن نتوقف قليلا عند وقوع "الذوق" و"التذوق" على معنى من المعاني المجرَّدة وتعلُّقه به. فإن "العذاب" مثلا معنى من المعاني المجرَّدة، ولكن تعلُّق "الذوق" به في قولنا: "ذقت العذاب"، إنما صح وحسن، لأن "العذاب" معنى تدركه الحواس إدراكا لا مرية فيه. كما قلت آنفا، ولكنك إذا قلت:"ذقت الفهم" أو "ذقت الكذب" أو "ذقت الإيمان"، وثلاثتها معان مجردة، فهو كلام ساقط مرذول، لأنه فقد التجانس والتطاعم بين طرفيه. ولا يخرجه من رذالته وسقوطه إلا أن تجلب إليه عاملا آخر يعين على التجانس والتطاعم بين طرفيه، فتقول "ذقت لذة الفهم"، و"ذقت وبال الكذب" و"ذقت حلاوة الإيمان"، وما أشبه ذلك من صريح اللفظ أو متشابهه، فيعتدل الكلام عندئذ ويستقيم ويتطاعم طرفاه بهذه الواسطة، وتذهب عنه رذالته وسقوطه. وهذا أمر بين إن شاء الله.
ولنطرح الآن الإلف جانبًا، لأن الإلف يضلل كما يضلل الهوى، ولنُقْبِلْ بأنفس بريئة من سطوة جواذبه ونوازعه، على النظر والتدبر فيما نقوله:"تذوقت هذا الشعر"، أو "تذوق الشعر". و"التذوق" هنا ببديهة اللغة وبديهة متكلميها: حدث مبهم غير متميز ولا متعين، إذ سقط عنه عمل الجارحة، وهي اللسان، سقوطا لا رجعة فيه، وبقى خِلْوا من كل بديل يقوم مقام هذه الجارحة في كشف الإبهام عن صاحب هذا الحدث (أي الفعل)، وينجده بعض النجدة بإكسابه شيئا يدنيه من التعين والتميز. وبيان ذلك أننا حين قلنا:"ذقت العذاب"، فإن "الذوق" صار خِلْوا من الجارحة صاحبة الحدث، وهي اللسان، وصار حدثا مبهما غير متعين ولا متميز، وبلا صاحب يُحْدِثه. ولكن "العذاب"،