وهو معنى من المعاني المجردة، أكسبه صاحبا مبهما بعض الإبهام، يقوم مقام الجارحة الساقطة عنه، وهو الجسم المحس للعذاب، أو النفس المحسة للعذاب، أو ما شئت = وأكسبه أيضا بعض ما يميزه ويعينه، بالذي هو مضمر في لفظ "العذاب" من إدراك الحواس للوجع والألم واللذع وأشباه ذلك. فهل استطاع "الشعر" هنا، أن يكسب "التذوق" صاحبا يقوم مقام الجارحة التي سقطت عنه؟ ! أو أن يمنحه بشيء مضمر فيه (أي في الشعر) تدركه الحواس، بعضِ ما يدنيه من التعين والتميز؟ أظن أن لا.
فإذا كان لفظ "الشعر" غير قادر بنفسه على شيء من ذلك، كما نرى حتى الآن، فقد وقعنا اضطرارا في حيز هذه المعاني العاجزة عن إحداث التجانس والتطاعم بين طرفي الكلام، مثل "الفهم" و"الكذب" و"الإيمان"، ودفعنا النظر دفعا إلى طرح "تذوقت هذا الشعر" على ركام من الكلام الساقط المرذول الذي فقد التجانس والتطاعم بين طرفيه. ولا تجزع أيها العزيز، لهذا المصير، فقد تعاهدنا أن نقبل على هذا الأمر بأنفس بريئة من جواذب الإلف ونوازعه، أي أن ننخلع انخلاعا من "دروشة" الصوفية وأشباههم.
هل ينفع "الشعر" أنه، كما قلنا أحرف مركبة في كلمات، وكلمات مركبة في جمل، وأنه على الجملة "كلام" بليغ مبين، وأنه لولا "اللسان" لما كانت الأحرف والكلمات والجمل والكلام البليغ المبين وأن "اللسان" هو أداة إبلاغه إلى سمع السامع؟ ونعم، هذا عمل اللسان بلا ريب ولكنه عمل لا ينفع "الشعر" شيئا، لأنه، قبل كل شيء، عمل مباين كل المباينة لعمله الأول وهو "التذوق". ثم يزيد الأمر خبالًا أننا، بلا شك حين نقول "تذوقت الشعر" مجرد تذوق أنفس الأحرف، وأنفس الكلمات، وأنفس الجمل، ونفس الكلام المركب منها مجردة جميعها من المعاني. ثم يزيده خبالا على خبال: أن الأحرف والكلمات والجمل والكلام المركب من جميعها، ليس اللسان سببا في إحداثها وتكوينها وتركيبها بل المُحْدِث والمُكَوِّن والمركب فاعل آخر غيره، وإنما اللسان واسطة للأداء والتبليغ، ليس غير، وإذن فعمله هذا في "الشعر" فضلة زائدة معينة للفاعل