للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

[أهوال النفس]

سبحان خالق نفسي! ! كيف لذتها ... فيما النفوس تراه غاية الألم؟

الدهر يعجب من حَمْلِي نوائبه ... وصبر نفسي على أحداثه الحُطُمِ (١)

وقت يضيع، وعمر ليت مدته ... في غير أمته من سالف الأممِ

أتى الزمان بنوه في شَبِيبته ... فسرَّهُم وأتيناه على الهرمِ

في ظل الأيام الصامتة الثقيلة، وفي سوادها المظلم الممتد تحت غمام الحياة، تتململ النفس من عنت وضيق وحيرة، وتجد من أحداث القدر ما يتركها تتقلب على نار موقدة من أفكارها وأشواقها وآلامها، وتتجمع من حولها أطياف ماضيها وأحلام مستقبلها، ثم تتنازعها هذه الهاوية في الأبد، وتلك السابقة في الغيب، حتى تكون بينهما تتمزق بين جاذبين قويين متعارضين لا يضعف أحدهما في قوته فتذهب النفس معه على وجهها إليه.

وفي هذه الحالة التي تدرك النفس يعيش أحدنا في أنفاس من الجحيم والعذاب المستعر، وتنشأ له في جنون اللهب أحلام مفزعة حمراء الحواشى والأطراف، تندلع في تاريخ إنسانيته، وتثبت فيه أثر النار التي تنضرم عليه فيكتوى بها وليس يستطيع أحد أن يخلص بنفسه من هذه الأحوال الفظيعة، لأن سبيل الخلاص لا يمتد إليه من خارجه، وما سبيل الخلاص إلا من النفس وحدها، فإذا كانت هي التي تعيش في حيرة وآلام مكفوفة عن قوة تفكيرها في إطفاء النار بإيمانها، فليس إلى نجاتها طريق تتخذه، أو باب تنفذ منه.

وهذه الأيام التي نحياها في دنيا الاضطراب العالمى المختبل المجنون، تشعل تحت النفس تنُّورًا هائلا طعامه تاريخ الإنسانية كلها من لدن آدم إلى هذا اليوم، وتملأ النفس أفكارًا كثيرة قد انطوت عليها، فهي تغلى بها غليان المرجل


(*) الدستور -السنة الثالثة- العدد ٨٠٧ السبت ٢١، جمادى الثانية سنة ١٣٥٩ - ٢٧ يوليو سنة ١٩٤٠، ص ١.
(١) الحُطُم: جمع حَطُوم، وهي النائبة تحطم الإنسان من شدتها، والأبيات للمتنبى.