فمن أجل ذلك كله انتبذهم الشعب أو استقلهم وأنكرهم وسخر منهم، لأن الشعوب لا تعرف بل لا تحب إلا صرامة الصارم وقوة القوى لأن الطبيعة والفطرة تدعو إلى البحث عن المثل الأعلى، أي عن أحلام الشعب في المثل الأعلى، أي عن الأحلام المتمثلة في قائد الجماهير، وإلا فلا فضل لأحد على أحد مادام أمر القيادة قائما على المتابعة دون الاستقلال، وعلى الممالأة دون العزم والإصرار والقوة.
وأنت لو تتبعت أدب الأدباء وشعر الشعراء، لعرفت يقينا أن الألفاظ التي تقرأها، فيها من كثرة الملل قدر ما فيها من قلة الجهد، وفيها من الفتور أكثر مما فيها من عدم الفكر، وأن أكثر ما تجده من الأفكار والأخيلة والأساليب ما هو إلا أحلام نائم لا حقيقة لها -أي لا رابطة بينها وبين الحقيقة، وربط الأحلام العقلية بحقائق الوجود هي العمل الصحيح للأديب والشاعر، فإذا تركا أحلامهما تضيع وتشرد وتند عن حظائرها من الحقيقة ضاع الأدب وبقي مبعثرا شاردًا لا قيمة له، فإذا لم تكن للأدب قيمة، فلا جرم أن يكون مدعاة للاستهانة، ومظنة للسخرية والاستهزاء.
ونحن اليوم مقبلون على زمان من التاريخ لابد فيه من العمل المرهق والجهد المميت، فواجب الأدباء والشعراء لا يتم إلا بنفض الكسل والخلاعة واللين والطراوة وقلة المبالاة، ثم إقبالهم على الحياة بنشاط المجاهد المضحي، لا بانبعاث اللاهي المتلذذ، ثم إقدامهم على أفكارهم وآرائهم وخيالاتهم وأحلامهم بالنظر الخاطف، والعقل المسيطر، والتدبير الحازم، والنظام المتساوق، فإذا فعلوا فقد أنشأوا حكومة عقلية جديدة قوية من هذه الأحلام المبعثرة، ويومئذ تنال هذه الحكومة العقلية الفائدة من احترام الشعب ما يجعل الأدب ساميا أبدا، حتى ما تستطيع العين إلا أن تنظر إليه طامحة سامية جادة، في مثل جده وسموه وطموحه، وبذلك يصبح الأدب احتراما يتجلى لا هزأة تمحو ضوءها ابتسامة المبتسم وسخرية الساخر.