للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

شاعر الحب والفلوات ذو الرُّمَّة

- ٢ -

" هذا والله ملهمٌ! وما علمُ بدويِّ بدقائق الفطة وذخائر العقل المعدة لذوى الألباب؟ لله بلادُ هذا الغلام! ما أحسن قولهُ، وما أجود وصفه! ".

الكميت بن زيد الأسدى الشاعر

غلامٌ يتيمٌ عبقريُّ الطبعة، مشتعل العقل، ثائر العاطفة، نابض الأعصاب، لطيف الحس ذكى القلب، وَرِعُ النفس، جيَّاش الخيال: يرى أو يسمع، أو يتوهَّم، فيهتز كيانه من أعماقهِ هزة خاطفة، كأنهُ قوسٌ موتَّرة يُنْبضُها مشبوح (١) الذراعين شديد النزع. بعث اليتْم في دمهِ حرارة التحفُّز، وسعَّر في روحه ضِرام الحياة الملتهمة، وسلبهُ سكينة القلب الغرير الناشيء، فهو أبدًا جافلٌ متفزّع، كأنما يعارضهُ -حيثما توجه- شبحٌ يتخيل لهُ في صورٍ تروَعهُ وتَهُولهُ.

ويقوم على تثقيف هذا الغلام اليتيم وتهذيبه، رجلٌ من عقلاءِ الرجال، وشاعرٌ مُقل من شعراءِ بني عدى بن عبد مناة، ثم هو أخوه الأكبر: "هشام بن عقبة". يشفق هشام على يتيمه "غيلان"، فيحوطهُ بقلب متودّدٍ، ويعطفُ عليهِ بنفس صادقة، فتشتد قوى الودّ بين الغلام اليتيمٍ وأخيهِ الذي يربِّبُهُ، وبذلك يكسب "الطفل" من عقل "الرجل" وذكائهِ وصدقهِ، عقلًا وذكاءً وصدقًا، حتى تنشقّ طفولته عن رجولة مبكرةٍ. ولا يزال الغلام ينشأ في سر البادية العربية الخالدة التي لا تكادُ تتغيَر، وفي جوّ الشعر العربي من أقدم عصوره إلى أيام شبابه [في أواخر القرن الأوّل من الهجرة من سنة ٧٧ - ٩٧]، وبين إخوة وأخوالٍ من شعراءِ البادية، وبين رواةٍ قد حفظوا شعر قومهم وغير قومهم. لا يزال الغلام ينمو على


(*) المقتطف، المجلد ١٠٢، مارس ١٩٤٣، ص: ٢٤٥ - ٢٥١
(١) مشبوح: عريض، يعني بُعْد ما بين الذراعين، وهذا أدعى إلى قوة النزع، وهو جذب وتر القوس لإطلاق السهم.