الأيام في ذلك كلهِ، حتى يمشي، في بادية قومهِ "بني عديّ"، بروح ثائرة متمرَدة عليه، تكافح طُغْيان البادية لتظفر بأسرارها المكتّمة. ينظر، وفي عينيه تلك اللمحة الحديد النافذة التي لا تدَعْ شيئًا إلَّا تغلغلت فيهِ أو أحاطت بهِ، لينالَ الخيالُ غذاءَه مما يرى. يُصغِى، وفي أذنيةِ تلك الحاسة الدقيقة التي لا تذرُ نغمة الّا اختطفتها، ليأخذ الشعور الرقيق حظهُ مما يسمع.
ويُومض في قلب الغلام ذلك الضوءُ المتلاحق المتدارك الذي يضئُ لعينيه دنيا جديدة ثم يخبو، ليعود فيبحث عنها في الظلام ليجدها مرة أخرى. هنا، ثم ها هنا، ثم هناك! ! ! أين ضلت عنهُ؟ كيف ذهبت؟ لماذا اختفت؟ ما الذي رأَى؟ ويهتز الفتى لليقظة، يريد أن يجدها، ولابدَّ لهُ من أن يجدها. وفي سر البادية العربية الخالدة، وفي جو الشعر العربيَ الخالد، يدبُّ الفتى اليتيم الصغير بين إخوةٍ وأخوال من الشعراءِ، ورواة للشعر يتناشدونه في أسمارهم تحت هدأةِ الليل التي تموج فيها النفس الإنسانية مَوجَها. يصغى الفتى ويحفظ، ويخفق قلبه بين جنبيه على نغم حُلوٍ حبيب تتردَد أصداؤه في أرجاء روحهِ، حين ينقلب إلى مضجعهِ. ولا تزال ترنُّ في أذنيهِ تلك الأصداءُ مع الفجر إذا تنفَّس.
ولم تزل البادية في عصر هذا الفتى تردّد أنغامها إيقاعًا عجبًا على ألفاظ اللغة، في شعر امرئ القيس فعل الجاهلية، ولبيد، وطرفة، وعنترة، والأعشى، والنابغة. ولكنَّ الفتى يتسمع إلى ذلك الحنين الخفيّ في نغم امرئ القيس وطرفة ابن العبد. ما هذه القوة المتدفقة من تحت الألفاظ، تعطيها الحياةَ فتحيى، لتغالب الدهور المفنيةَ المبيدةَ للحياة؟ وما هذه الصورة الممثلة التي تحبّب البادية إلى قلبه حبًا لا ييأس ولا يفتُر؟ كيف استطاع هؤلاءِ أن ينفذوا في الغامض الملتبس ليبعثوه في كلماتهم بيَنًا سهلًا يكاد يمشي ويتحرَّك؟ ! ثمَّ تَلْقَفُ مسامعه تلك الأنغام الجديدة التي تقذفها حواضر الحجاز والشام إلى بوادي نجدٍ: عمر بن أبي ربيعة، العرجيّ، الأحوص، عبيد الله بن قيس الرُّقيات! ! هذا الترفُ الجميل الذي يعبث بالحب ويعبث الحب بهِ. نساءٌ ينفثنَ على ألسنة هؤلاءِ سحر الغزل وفتنة الأحاديث. ويناظر الفتى -الذي صهرته البادية، ثمَّ صاغَتهُ، ثمَّ نفخت فيهِ