-بين هؤلاء، وبين امرئ القيس وطرفة ومن إليهما من فتيان الجاهلية وفُتّاكهم وأصحاب اللهو منهم. ولكن شعر المعاصرين يقبل على قلبه وعقله بغضارته ولينه وترفه، ثم ينفذ فيهما بسطوته، سطوةِ الجديد المتحكم. يتمنى الفتى أن يرقَّ رقة هؤلاء الغزلين، إن في روحه سرًا يتحرك، إنهُ يريد أن يقول. وتتبع عين "الفنّان البدويّ" أَوانِسَ البادية، كما تبعت عيون الشعراء المعاصرين أوانس الحاضرة في الشام والحجاز، ولكنهُ لا يستطيع أن يقول كالذي قالوا. إن قلبه لا يزال مغلقًا على قَدَره الذي سيحين وقد قارب. وتجيش أمواج الشعر في صدره لتكون إرهاصًا للقدر المُجْلِب عليهِ من بعيد أو قريب. فيعالج بداوته التي حكمته وأنشأتهُ، بتقليد الرقة التي يستشعرها من فنّ الشعراءِ الفتيان المعاصرين، وينظر إلى ابن أبي ربيعة الذي فتن نساءَ عصره، يريد أن يكون كمثلة ترفًا وغزَلًا وحديثًا، وهيهات! إنهُ سرُّ البادية العربية، وابن أبي ربيعة سرُّ الحاضرة العربية، لكنهُ سيقول على نهجه غير متلبث، إلى أن تنتفض روحه انتفاضتها: شاعرةً مبينة متحدثة على سجيتها. فماذا يقول؟ :
أطاوع من يدعو إلى رَيق الصِّبا ... وأترك من يَقْلَى الصبا لا أُؤامرُهْ
وسِرب كأمثال المَها، قد رأيته ... "بوَهْبينَ": حورُ الطرف بيضٌ محاجرُهْ
إذا ما الفتى يومًا رآهن، لم يزلْ ... من الوجد كالماشى بداء يُخامِرُهْ
يُرين أخا الشوق ابتسامًا كأنهُ ... سنا البرق في عُرْف له جاد ماطِرُهْ (١)
فجئتُ وقد أيقنتُ أن تستقيد لي ... وقد طار قلبي من عدوّ أحاذِرُهْ
(١) عرف السحاب: أعلاه الذي يتدلى منه كعرف الفرس متهدلا.