فقال: بأهلى! لا تَخَف! إن أهلنا ... هجُوعٌ، وإن الماءَ قد نام سامِرُة
فأين البادية، وأين ابن البادية في هذا الشعر؟ لقد ضاع ابن البادية ولم يبق له من بداوته إلَّا قوله:"وإن الماءَ قد نام سامره"، فإِن أهل الحواضر لا يقولون ذلك، وإنما هذا كلام الذين ينتجعون الغيث في البوادي، وينزلون على الماءِ في الفيافي الظامئة. وأما أهل الحضر فيقولون:"إن الحيّ قد نام"، وينسون الماءَ لقلة افتقادهم إياه في الحاضرة، أو يقولون كما قال عمر بن أبي ربيعة:
فما رِمْتُها حتى دخلت فجاءَة ... عليها، وقلبي عند ذاك يروَّعُ (١)
فقلن حذارَ العين لما رأيننى ... لها: إن هذا الأمر أمر سيشْنُعُ
فلما تجلى الروع عنهنَ قلنَ لي: ... هلَّم! فما عنها لك اليوم مَدْفع!
فَظَلْت بمرأى شائقٍ وبمسمع ... ألا حبذا مرأى هناك ومَسْمَعُ! !
إن فنان البادية يقلد هؤلاءِ الحضريين، فهو يطاوع أصحاب اللهو والبطالة، لا يبالى بمن يلومه وينهاه. وهو يملأ عينيه من جمال الفتيات، يغازلهن ويحادثهن ليعود إلى دارهِ مترنحًا يتهالك من صبابته بهنَّ. ثمَّ يتفتَّى فيدَّعى أنهُ انفرد بواحدة من بينهن قد تيقَّن -أو خيل لنفسه أنهُ يتيقن- أنها أمكنته من نفسها، وأنها لابد منقادة له، فواعدها فجاءَها لميعادها على رِقْبة من أهلها خائفًا فزعًا، فتحدثهُ صاحبته بما يسكن روعه. تفدّيه بأهلها حين يقبل عليها، ثم تميل عليه فتقول: لا تخف! ثم تبتسم له وتُخافت صوتها لتعلمه أن "أهلها هجوع، وأن الماءَ قد نام سامره". فهذا شعر غُفْل لم يوسم بسِمَة امرأة بعينها قد فرغت لها نفسه، وإنما هنَّ النساء: غانيات مطمعات بالحب لاهيات. وهو يتهالك في شعره تهالك "الماشى بداءٍ يخامره". ثم يعود بخيلاء شبابه فيحدث نفسه أن الفتاة خاضعة له، ثم يحاول أن يتمثل الفزع ليزعم أن الفتاة قالت له وقالت! ! هذا شعر الغزلين من أهل الحضر، لا شعر الفتى الذي كان -إذ ذاك- يتهيأ في داخله ليستوى على ذروة الشعر العربيّ الفنيّ، حتى يخرّ له شعر العشاق والفنانين من