بقيت أسابيع وأنا كالسجين المعذب في وحدة الغربة ووحشة التشريد، وكنت أجد المعاني في نفسي وفي قلبي وفي أفكارى، وكأنها ظاهرة على لسانى ولكني إذا جئت إلى القلم أحمله لأكتب وجدته صامتا جافيا نابيًا عن أوراقه، ثم أتحامل عليه أقسره على المطاوعة فإذا هو حائر عَيِىّ تَمْتام متردد لا يفصح ولا يُبِين، وعجزت عن علاج هذا العجز الذي لحق بأنيسى وصاحبي وكاتم سرى، والمخبر عن نفسي، والمبين عن معاني روحي، فلما أعيانى وغاظنى وهدد حولي، وبدد حيلتي، لجأت إلى الكتاب أستخبره وأستنبئه وأطويه وأنشره، وصرفت أوقاتى في القراءة.
وأقبل على يوم كاللعنة المرسلة حائرة طاغية ماحقة، ولم أجد ملجأ ولا ملاذًا ولا مغيثا حتى جاء الليل يؤنسنى بسواده ووحشيته، فلما ضقت انصرفت إلى بيت كتبى فجعلت أتلفت حائرًا لا أدري ما آخذ وما أدع، حتى استقر بصري على كتاب أسود مظلم موحش مضطجع على صف من الكتب، فأخذته وانصرفت إلى غرفة نومي أملأ بحديث هذا الجزء من كتاب "الحيوان" للجاحظ فراغ الليل الساكن الموحش.
أيتها النجوم الخاشعة المشرقة في معبد الزمن السرمدي! أنت دائما أنسى وراحتى وصديقي، ولكن الكتاب أيضا صديق يحدثني حديث العقول الناسكة المضيئة في معبد العقل الأبدي. أفتأذنين -أيتها النجوم! - أن أخلو إلى شيخى أبي عثمان ساعة من ليلك أسمع في صمت كتابه صدى لسان المتكلم من أقصى الماضي؟ قولى نعم! وخلاك ذم.
(*) الدستور -السنة الثالثة- العدد ٨٥٤، الثلاثاء ١٤ شعبان سنة ١٣٥٩ - ١٧ سبتمبر سنة ١٩٤٠، ص ١.