ولكن. . . ولكن ما أكذب النَّفسَ على النفْس! أنتَ هناك بحقيقتك الخالدة التي تحيا بأمر الله في جو السماء، وأنا هنا بحقيقتي الفانية التي تموت يومًا بعد يوم بأمر الله في جو هذه الأرض. . . أنتَ هناكَ وأنا هنا، وبينهما البرزخ الذي لا تجوزه الروح إلا بعد أن تتطهر من أدران هذا الدم المتجسِّد في أجلاد الإنسان. . . أنت هناك وأنا هنا، فكيف أنخلعُ من ثَوْرَتى التي أنا بها هنا؟ كيف أنخلع من جسدي؟ ومع ذلك. . .
"ففي القلب تعيشُ الأرواح الحبيبة الخالدة التي لا تفنى وفي القلب. . . تُحْفَر القُبُور العزيزة التي لا تُنسى لم أفقِدْك -أيها الحبيب- ولكني فَقدتُ نفسي".
[ذكرى الرافعي]
لستُ أدري! فأنا أذكر الرافعيّ. أعرفهُ أديبًا شاعرًا فيلسوفًا. . . رجلًا قد انصرف بهمِّه إلى الأدب والفكر يجدُ فيهما ما يَجِدُ، ولكني حين أذكره لا أجده في نفسي إلا الصديق وحده. لم أعاشره طويلًا حتى أقول إني أعِى للناس خبره وأعرف عنه ومن أمره ما لا يعرفه غيري، كلا لست أدعى ما ليس عندي ولكني كنت أبدًا معه بحبي له وصداقتي، وكان هو أبدًا يحوطنى بروحه في أنفاس من حنانه وحبه. كنا روحين تناظرتا من بعيد وتناسمتا من قريب فعرفته وعرفنى. كان بيننا سرٌّ جامعٌ لا أدري كيف أصفه، ولكن كان من يعرفنى ويعرفه يجد آثاره ويرى من بعض بيناته ما لا أحبُّ أن أحدِّثَ به. ومع ذلك فأنا أقصر في حقه ما لم يقصِّر أحد ممن توجبُ عليه الصداقةُ بعض واجباتها، ولم يكن ذلك، لأني لا أريد، بل لأنى لا أستطيع ولا أطيقُ فما زلتُ كلما ذكرتُ الرافعي -وقد مضت سنوات- أجد لذعة حُزْن في قلبي تُرسلُ آلامها في كلّ سابحةٍ من دَمِي.
ولكن الله لم يُخْلِ حقَّ الرافعي من رجُلٍ يقوم عليه ويُحسنُ النظر فيه، فهيأ له الأخ "محمد سعيد العريان"، يرد -بوفائه لذكرى الرافعي- كل ما وجب على أصدقاء الرافعي وأبنائِه وتلامذته ومُتَّبِعيه. فقد بادر "سعيد" بعد وفاة الرافعي فأنشأ يحدّث الناس بأخباره ما دَقَّ منها وما جلَّ، ويضع بين أيدي الأدباء أكثر العوامل