فيتلقاني بين ذراعيه إلى قلبه لأشعر بحنان من الروح يطفئُ غلتي، ويرسل في أعصابي ريَّها من الحب، الحب الذي هو فجر الحياة بنعومته ورقته وطهره، الحب الذي يردُّ القلب المكدود الظامئ زهرة تتفتح في جو من النور والندى والشباب. . . (يا بُنَيَّ)، من يقولها لي يضع في نَبْض أحرفها نبض الحب. . .
أين أنت أيها الحبيب؟ كنتَ أخي وصديقي ومن أستودعه سر قلبي المعذب في تنُّور الحياة الموحشة التي يضطرم جوها بالصمت المتوهج والوحدة المستعرة. . . كنت أخي وصديقي، وأنا أبيد كما تبيد الأيام والليالي في كهوف الحياة الدنيا. . . كنت أخي وصديقي، وعواطفي تزأر وتجأر في باطني كأنها وحش جريح متألم ثائر لا يرى مَن جَرحه لينتقم. . . فالآن وقد جددت الدنيا أساليب تعذيبى عذابًا ضِعفًا من الآلام. . . الآن وقد أوجدتني الحياة ما أريده، ثم وضعت بيني وبينه سدًّا يصف ما وراءه من أشواقى ويقف دوني فلا أنفذ منه. . . الآن وأنا أشتعل وأتفانى من جميع نواحىَّ. . . الآن وأنا أتوثب في قيود مرخاة تمنحني الحركة وتمنعني دون الغاية. . . الآن وأنا أمزق جو حياتى بزئيري وأنيابي ومخالبي، وأُحرقه بوجدي ولوعتي واشتياقي. . .
الآن أين أنت أيها الحبيب؟ يا أخي وصديقي.
انظر إليّ -أيها الحبيب- من وراء هذه الأسوار المنيعة التي تفصل بين الحياة والموت. . . الأسوار التي تمشي إليها الحياة كلها ساعة بعد ساعة دائبة ماضية لا تقف، فإذا بلغتها ابتلعتها من حيث لا تشعر ولا تتوقَّعُ. . . انظر إليَّ -أيها الحبيب- وتكلَّم بكلامٍ من شعاع مضئ حىٍّ يُفهمُني حقيقتي الحية، ويضئ لعينى هذه الظلمات التي تعترك بين يدي في مدِّ عيني. . . انظر إليَّ -أيها الحبيب- واسكُبْ في قلبي ورُوعى حقيقة الإيمان الحىّ الذي لا يموت. . . انظرْ إليَّ واصحبْني فأنا الذي لا يصاحبُ الأحياء من الناس، لأنهم لا يعرفون معنى الحياة إلا فائدة تلد فائدة، كما يلد بعضهم بعضًا في مَشيمَة من الكره والعنتِ وآلام المخاضِ وأمشَاجٍ من الدم يشْخَب من حولها ويتضرَّجُ ويقيحُ بعضُه في بعض.