تأليف محمد جواد البلاغى النجفي الجزء الأول -مطبعة العرفان بصيدا- سنة ١٣٥٢
كان القرآن الكريم ولا يزال مادة البلاغة العربية بل مادة العقل العربي بل مادة الحياة الإنسانية العالية بآدابها وعلمها وفقهها وأحكامها ودولتها. نزل بهِ الوحي على محمد - صلى الله عليه وسلم - فجمع الأمة بعد شتاتها وافتراقها على كلمة واحدةٍ في قلب رجل واحدٍ أينما سارت سجدت لها العروش ودانت لها الملوك وخضعت لها الرقاب واستقبلتها القلوب وانقادت لها النفوس وعلا بها الحقُّ وأضاء بها الوجود حتى إذا تمت لها المعجزة في إخضاع العالم للحق وإخراجه من ظلمات الباطل إلى نهار الحق بدأت طبيعة الحياة تفعل فعلها وتفتن فتنتها فمدَّت الشبهات أعناقها، وظهر الخلاف بين الناس إلا أن الشبهات كانت لأول عهدها خفية قليلة وكان الخلاف ضعيفًا متقاربًا ثم بدأ الجدل واللجاج والعناد الإنساني البغيض حتى استحكمت الشبهة وكثر الخلاف واتسع ما بين أصحاب الرأيين وتعصب هذا وتنطع ذاك فخرجت الفِرَق المتعادية والنِّحل المتخاصمة وبقى كل فريق يطلب النصر لرأيه لا للحق وبذلك اضطرب الحبل وفسدت الأمور واستحلَّ القتال وضعفت الدولة. وهذه صورة يتكرر ظهورها في التاريخ. ومن يتتبع أحوال الفِرَق وأسباب نشأتها وأطوار نموّها وضعفها يعلم أن الخلاف أو الشبهة التي يُبْنَى عليها المذهب ليست إلَّا كبوة عقلٍ واحدٍ في رجل من أصحاب الرأي انساق في آثارها وجرَّ وراءَه أمة من الناس تعصبوا، فأكبُّوا معهُ. ولا بأس أن ننقل هنا كلمة للجاحظ عن إبراهيم النظام رأس الفرقة المشهورة من المعتزلة بالنظامية. قال في كتابه الحيوان ج ٢ ص ٨٣ "وكان إبراهيم مأمون اللسان قليل الزلل والزيغ في كاب الصدق والكذب. . . وإنما كان عيبه الذي لا يفارقه سوء ظنه وجودة قياسهِ على العارض والخاطر والسابق الذي لا يوثق بمثله فلو كان بدل تصحيحه القياس التمس تصحيح الأصل الذي قاس عليه، كان أمره على الخلاص، ولكنه كان