للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وفي هذه السنة التي انتفض عليه فيها عُرُّ قومه، جلسنا يومًا نتحدّث فجرى الحديث إلى ذكر السودان، فقال لي إن قضية مصر في مسألة السودان ليست إلا دعْوَى لا خير فيها، فإن هذا النَّيل الذي تزعمون أنه يربط بين مصر والسودان رباطًا لا انفصام له لا ينفعكم في إقرار الحجة لدعواكم أن مصر والسودان أمَّة واحدة أو ينبغي أن تكون أمة واحدة. وقال: أرأيت إلى نهر الدَّانوب، كيف يجوزُ في العقول أن يَدعى مُدَّعٍ ممن يعيش على مدّه أنه يُوجِب توحيد الأمم التي عليه لتكون أمة واحدة؟ أو ليسَ إذا قام شعبٌ من شعوب الدانوب فادَّعى بمثل ما تدّعون، فإن الواقع كله يبطلُ حجَّته، والعقل يوجب أنْ يشكَّ المرءُ في صحة إدراك هذا الشعب؟ فهذه هذه، فليس ينفعُ قضيَّة مصر أن تدَّعى أن النيلَ بينكما هو الرباط الذي يوجب أن تصيرَ مصر والسودان أمة واحدةً. والعجبُ العجابُ عندي أنَّ حديث السودان كان قد جرى بيننا قبل أن يمسَّه عُرُّ قومه، فلم يقتصر يومئذ على أن يسكت؛ بل كان قد وافقني على ما ذكرتُ لهُ من حجة في قضية السودان، فإذا هو قد نسى كُلّ هذا بعد أن ارتدَّ إلى سِنْخه (١) وطبيعته. . . وهكذا الإنجليز.

ومضى الزَّمنُ، وإذا بنا نسمع إحدى الببَّغاوات (٢) التي سُلِبَت العقل وكُسِيَت الريش الجميل، تردّد هذا القول المدخول الفاسدَ من جميع نواحيه، ولو كان قائله إنجليزيًّا لهانَ الأمرُ، وهو هيّن على كل حالٍ، ولكنه مع أشَدّ الأسف سُوداني بالمولد والإهابِ، أما قلبُه فقد بيع بالمزادِ فوقع في قبضة الرَّجُل الذي رفعتْه إنجلترا بين عشية وضُحَاها من وهدة البؤس والحرمانِ، وكان فيهما رجلًا فاضلًا، إلى ذروة الغِنَى والجاه، فأصبح بعدهُما جانحًا إلى النقصان ساعة بعد ساعة.

زعمت الببّغاء أنّ ليس في الدنيا شيءٌ يقال له وحدة وادي النيل، كما أنه ليس في الدنيا شيءٌ يقال له وحدة نهر الدانوب، وأنّ الذي يُبْطِلُ هذه يُبْطِلُ تلك


(١) السنخ: الخليقة والسجيّة.
(٢) يعني الأستاذ هنا يعقوب عثمان.