للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

جبال الزمن؟ كيف تستقبل النفس -التي أحرقها الظمأُ المتضرِّم- شؤبوبًا (١) من الغيث يهمى عليها باردًا عذبًا زلالًا سائغًا يترقرق؟ كيف وكيف؟ لقد عرف هو كيف يكون ذلك كله حين تكلمت روحها في ثنايا روحه المتغضِّنة بأحزانها، وحين أخذت تناجيه بالذكرى. . .، ويتحدر في صوتها ذلك اللحن الخالد الذي يتحدر مع الغيث من السماء يناجي الأرض الظامئة المقشعرة المجدبة، فلذلك تهتز وتربو على مد أنغامه التي تفجر في ذرَّات الثرى كل ينابيع الحياة.

واستجاشت هذه الساحرة الجميلة التي خرجت عليه من لفائف الغيب المحجب تلك النفس المصممة العنيدة فما زالت حتى انقشعت الغمامة الغبيّة التي كانت تحيط بنفسه عمرًا من قبل. إنه الساعة يسمع ويرى ويحس، ويتغلغل في الحياة ببأس شديد. لا، بل كان في أول أمره هذا مضطربًا حائرًا يدور بقوته حيث دارت به على غير هدى ولا صراط، كان ربما خلا فاستوحش فارتاع، فيحتمل كل أعباء الهم الذي يجده في نفسه، فيخرج يضرب في البيداء المقفرة البيضاء في مدّ البصر، حيث لا يرى إلا صفاء السماء وبحر الرمل الساكن في مهاد الأرض. . .، حيث لا يسمع إلا حنين الرياح ونجوى أشواقها الأزلية في المَهْمَه القَذَف (٢). يمشي ثم يمشي حيث يتصرف به القدر الغالب، وهو لا يسمع مع ذلك إلا أنغام صوتها من حوله يتردد: أنت، أنت! ! أين كنت؟

اشتعل القلب وفارت الروح، فانطلق بعد الحيرة والضلال في طريق سويّ مؤيدًا بهذه الروح القوية التي سيطرت على كل روحه بالحب والحنان، ومضى يعمل لها وبأسبابها نافذًا مقدمًا لا يمل. ولكن سمعه لم يزل على حالة من الإصغاء ثابتة، كأنها إغماء أخذه كما تأخذ غمية الوحي إذا نزل فاشتد فاستبان، ثم تنحدر رنات صوتها إلى قلبه فتجرى في أنهار الحياة المتدفقة في جثمانه بدمه، فيرجع الدم ألحانها ترجيعًا موسيقيًّا هفافًا آتيًا من أغوار القدر العميقة. نعم، إنه لا يزال يسمع في مخارم نفسه ومهاويها صدًى يتردد:


(١) الشُّؤْبوب: الدَّفْعَة من المطر.
(٢) المَهْمَه: الصحراء. القَذَف: البعيد.