البيداء المجدبة الظامئة، فقد معها القدرة على الحياة، ومع كل ذلك فما هي إلا أديم أصم، وأداة لا خير فيها إذا لم يكن كل الخير من قوة الساعد التي تمتد في رشاء يتطوح بين أرجاء البئر.
ما أبلغه من أعرابي، لولا نقل حديثه من الدلو إلى المرأة!
"قاتلتي وملؤها حياتي! ! "
إنها المرأة يا سيدي هي وحدها التي تستطيع أن تكون القاتلة المحيية في وقت واحد. إن كل ما فيها هو حياة محبها، وكل ما يكون منها -إذا أرادت- هو سبب من أسباب سلب هذه الحياة سلبًا جبارًا لا رحمة معه ولا هوادة فيه.
إن المرأة الحبيبة هي النبع الصافي النمير الذي يرى المحب الصادق في كل قطرة منه حياة تتلألأ في روحه بالمنى، فإذا أرسلت هذه الحبيبة في دمه قطرة واحدة من مائها -أي من حبها- أطفأت هذه الواحدة كل النيران الملتاعة التي تجفف بحرِّها ماءَ حياته. فإذا منعتْ عنه غيثها جعلتْ كل أفكاره وأحلامه وأمانيه تحتطب من الحياة ما تؤرِّث به تلك النار المبيدة التي لا تنفح نفحها على شيء إلا جعلته رمادًا أغبر. ويومئذ تتحول الحياة فيه إلى خمود بليد، أو إلى حماقة مجنونة كما يعترض الرماد للريح العاصف تطير به في كل وجه حتى يتفرق. . .
ثم سكت صاحبي. . .، وخيّل إليّ أن غمامة سوداء داجية من ذكرى أحزانه وآلامه قد أظلَّت عليه وتدانت أهدابها، فهو يرفع يمينه إلى جبهته، ثم يُمرها إلى ناصيته، إلى يافوخه يضغط عليه. ويتنفس خلال ذلك أنفاسًا جاهدة ينتزعها انتزاعًا من أقصى منابع الحياة في قرارة نفسه. . . ما أقسى الذكرى إذا ضربت في القلب بفأسها تحطمُ وتدمِّر وتنقضُ بناء الأيام الماضية! إن غبار هذا الهدم ليرتفع ويثور حتى يملأ الجو النفسي بما يضجر ويخنق من ترابها، وما أضعف الرجل إذا أخذت الذكرى تلح عليه إلحاح الكبرياء، تتحدى الإنسانية والرجولة بأوهن الفكر! الذكرى. . .! هذا شيء مخيف مفزع. إنها الشبح الذي يدب من بين القبور المهجورة التي تناثرت فيها أشلاءُ الموتى. إنها تقتل بالرعب، فإذا أتت المحب ذكرى حبيبه، فذاك شبح هائل يقتله بالرعب والحنين معًا.