قواعد هذا الوهم المنتشر الذي سوَّلت لبريطانيا نفسُها أنه بناء جديد تقوم على أساسه سياسة الإمبراطورية البريطانية الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية. جاءت هذه الثورة فكانت سُنّةً جديدةً في توجيه سياسة العرب توجيهًا غفل عنه المرتزقة من السياسيين القدماء في هذا الشرق، وجاءت فكانت برهانًا جديدًا على أن الشرق العربي والإسلامي لن ينام مرة أُخرى على خُدَع البريطانيين وخيانة المرتزقة من السياسيين، وعلى أن الحياة التي دبَّت في العرب لن تتسكع مرة أخرى في أوصال هذا الكيان القوي العميق المتراحب، بل سوف تتدفّق في نواحيه كلها إلى أن يستوى عوده على الهيئة التي تجعله كيانًا صحيحًا في هذا الكون الذي يغلى من حوله بالثورات السياسية والإجتماعية والاقتصادية والعلمية.
ليس هذا فحسب، بل علينا منذ اليوم أن ننظر ماذا كانت تريد بريطانيا بعقد هذه المعاهدات؟ كانت تريد أن تجمع دول العرب على معاهدات يكون لها فيها الغنم وعلينا الغرم، أي أن بريطانيا كانت تريد أن تستعبد العرب جملة واحدة وتسيرهم في أغراضها على نظام متفق لا تشذ عنه دولة عربية واحدة، سواء أكانت مستقلة استقلالا صحيحًا أم كانت مستقلة استقلالا مشوبًا بالعبودية للإمبراطورية البريطانية، ومعنى ذلك أيضًا أنها تعلم أن العرب سوف ينتهي بهم الأمر إلى أن يكونوأ أمة واحدة، فهي تريد أن تسبق الزمن وتجمع هذه الكتلة الواحدة في قبضة يديها حتى لا ينتشر عليها الأمر. وهذا غرض بين جدًّا، ودوافعه أشد وضوحًا واستبانة. فهل آن لنا أن نتنبه إلى الوضع الصحيح الذي ينبغي أن تكون عليه مطالب العرب فيما هم بسبيله من إحراز حقوقهم كلها جملة واحدة؟
لقد كتبت منذ سبعة أشهر كلمة في هذه المجلة بعنوان "شعب واحد، وقضية واحدة"، وذلك في العدد ٧٣٠ بتاريخ ٣٠ يونية سنة ١٩٤٧ قلت فيها: "إن قضية العرب قضية واحدة بينة المعالم: هي أننا لا نريد إلا أن تكون بلادنا جميعًا مستقلة حرة لا يحتل عراقها جنديٌّ واحدٌ، ولا تخضع جزيرتها لسلطان ملوك البترول، ولا ينال نيلها من منبعه إلى مصبه سلطان بريطانى أو غير بريطانى، ولا تقع شامها ولبنانها تحت سطوة غاصب ولا يعيث في أرجاء مغربها فرنسي