للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولكن يبقى شيء واحد ينبغي أن أختم به هذا الحديث. وهو هذا التوهج الَّذي كان في تلك الحقبة من الزمان، وأثره على سائر الرقعة التي وقع فيها.

لم تكد تمضي عشر سنوات على ظهور كتاب "في الشعر الجاهلي" أي في سنة ١٩٣٥ حتَّى أدرك طه حسين إدراكا واضحا جدا أن اللسان العربي قد صار في محنة، لا في نفسه، بل في هذه الأعداد الهائلة من المثقفين الذين رفضوا الأدب العربي كله، ورفضوا القديم كله شعره ونثره، لا في مصر وحدها، بل في كثير من البلاد العربية، وأن أعدادهم إلى تكاثر كلما تقدمت الأيام، فأخذ يعبر عن ذلك بألفاظ محزنة باكية، وحاول أن يتألف هؤلاء النافرين ويردهم إلى الطريق القديم، وإلى أدبهم القديم "لكي يظل قواما للثقافة، وغذاء للعقول، لأنه أساس الثقافة العربية. فهو إذن مقوم لشخصيتنا محقق لقوميتنا، عاصم "لنا من الفناء في الأجنبى، معين لنا على أن نعرف أنفسنا".

هذه بعض كلماته -رحمه الله-. ومعنى ذلك أن طه حسين في تلك السنوات، قد فزع فزعا شديدا لانصراف الناس عنه وعن عربيته التي يحبها، وعن لغته التي يحرص على سلامتها، وعن بيانها الَّذي يعتز به، ومعنى ذلك أيضًا أن الدكتور طه حسين في سنة ١٩٣٥، عَلِمَ عِلْمَ اليقين أن الَّذي أثاره بألفاظه المفزعة سنة ١٩٢٥، قد خرب البنيان الَّذي كان يظن يومئذ أنَّه سوف يبنيه بعد أعوام قلائل، وبلا مجاز ولا تشبيه. أدرك طه حسين أن الَّذي قاله في سنة ١٩٢٥ مفض إلى ضعف اللغة العربية، وإلى أن تصير الأمة العربية أمة لا لسان لها إلا العامية السوقية، بلا تاريخ، وبلا علم، وبلا ماض.

ثم شهد الدكتور طه حسين بعد ذلك في أواخر أيامه تقوض القديم كله، مع تكاثر أعداد المثقفين، فكان يقول الكلمة بعد الكلمة معبرا عن حزنه وعن لوعته، بل قل مكفّرا عن خطه العظيم، الَّذي قدر الله أن يقوله في ساعة عظيمة من حياة هذه الأمم فكان له أثر عظيم في تدمير أمانيه وأماني كل مخلص لأمته.