فنكبوا عن ذلك إلى تصريف هذه القوة العلوية حين تستيقظ في هذا الشرق تصريفًا يكفل لهم معها أمرين:
الأمر الأول: التنفيس عن هذه القوة، واتخذوا لذلك أبرع الأساليب، فحاولوأ أن يظهروا وكأنهم هم الذين يعملون على إزالة غشاوة الجهل عن العيون المحجبة، فأنشأوا المدارس وتلبَّسوا بالنصيحة للتعليم في معاهده كلها، وجعلوا خلال ذلك يضعون ويقررون أصولًا تؤدى بهم إلى أغراضهم، ليسيروا بالتعليم إلى حالة ترضيهم وتنفعهم، فلا يخرجون من هذه المعاهد جيلًا يقف أمامهم كما تقف القوة للقوة وكما يناهض العقل العقل، ثم يزاحم في إنشاء الحضارة بالقوة العاملة والفكر المبدع.
والأمر الثاني: وهو بناء على ذلك البناء، وذلك اجتهادهم -بكل أساليب التنبيه والدعاية والمثال وغير ذلك- في توجيه الرأي العام في نواح بعينها إلى العصبية الفردية والإجماعية، ثم صرف هذا الرأي العام -أي أهله- عن الاهتمام بتقرير الأصول العامة التي تسير عليها السياسة الخلقية والعقلية والإنشائية والعملية، وعن العمل في توحيد الرأي العام للشعب توحيدًا يكفل للأمة أن تستغل كل قواها في تدبير المستقبل على نظام ثابت مستقر ماض على أسبابه إلى النهاية غير مختلف ولا متنافر.
وقد كان من نتائج هذين الأمرين العظيمين -حين استيقظنا وأبصرنا- أن تعددت الثقافات في الشعب الواحد، وتنابذت العقول على المعنى الصحيح، واختلفت المناهج المفضية إلى الغايات، وعاون ذلك ما ورثناه من الجهل الداعي إلى العناد والمكابرة واللجاجة، فاستشرَى داء العصبية وأصبح العمل عندنا لا يكون عملًا حتى يحاول أن ينقُض كل ما سبقه من العمل، وتعاقبت على الأمة أطوارا بعد أطوار ولا تزال في عهد الإنشاء، ولا تزال اللجان تجتمع عامًا بعد عام لتقرر وتضع، وليس إلا التقرير والوضع وَحَضَانة المذكرات! !
وكذلك اختل نظام الرأي العام. وهو لا يكون إلا من اشتراك الجماعة في الأصول الثقافية كلها، واختَل أيضًا مكوِّن الرأي العام، وهو الصحافة وما ينزل في