وإلى حرص على تمييز شيء من شيء، وإلى عناية متوجهة إلى غرض واحد أو أغراض متنوعة. وهذا غير ممكن أن يتم من تلقاء نفسه على وجه صحيح، ولا أن يتم كله دفعة واحدة. ويحتاج أيضًا إلى ترديد الكلام وترجيعه، وإلى إعادة النظر فيه مرة بعد مرة بعد مرة، وإلى التقاط شيء من هذا الخليط، وإلى فصل بعض من بعض، وإلى ضم شكل إلى شكل، وإلى ملاحظة الفروق بين المتشابهين أحيانا، أو تحديد ضرب من التشابه بين غير المتشابهين ظاهر أحيانا أخرى. وأشياء أخرى كثيرة لا يضبطها إلا المنهج والقصد والعناية.
وهذا الذي وصفت هو "التذوق" بعنصريه "التذوق" الواقع على طبيعة الكلام نفسه، أي على ما يتميز به من "السذاجة" أو "البلاغة" أو ما شئت من هذا الباب، والذي كان مبهما كل الإبهام، فجاء عبد القاهر الجرجانى فألف كتابين:"أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز"، ليزيل الإبهام عن لفظ "البلاغة": أي عن أحد عنصرى "التذوق"، وهو نفسه "التذوق" الواقع على طبيعة منشيء الكلام، أي على بعض ما يتميز به من الطبائع والشمائل أو ما شئت من هذا الباب، وهذا العنصر الثاني هو الذي حاولت جاهدا أن ألتمس لنفسي طريقا إلى إزالة إبهامه، فإن أنا قد وفقت فيه إلى بعض الصواب، فبفضل الله وتسديده، وإن أكُ قد أخطأت الطريق وأسأت، فأسأل المغفرة واسع المغفرة سبحانه.