وفي هذا العصر نفسه، بلغت فورة الاستعمار الأوربى ذروتها، وغمرت الشرق والغرب العربي أمواج طاغية متدافعة من البغي والعدوان والعصبية الفاجرة، وأصبح العرب من أطراف مراكش إلى أقاصى العراق غرقى في لجج الاستعمار الأجنبى، ثم لا يجدون شيئًا يتشبثون به إلا الإيمان، وإلا أنهم قوم بُغِى عليهم و"على الباغى تدور الدوائر"! أي أنهم كانوا مستسلمين لعقوبة القدر التي نزلت بهم، وكان مع الاستسلام الذهول والتشتت والحيرة والضلال عن الطريق السوى، طريق الحرية.
وفي هذا العصر أيضًا ولد رجلان قدر لاسمهما أن يكونا أعلى الأسماء في شعراء مصر والبلاد العربية، هما شوقى وحافظ، ولد أولهما في سنة ١٨٦٨ وولد الثاني في نحو من سنة ١٨٧١، أي قبيل اليوم المشئوم في تاريخ وادي النيل وتاريخ العرب قاطبة، إذ تم للغزاة البريطانيين أن يطؤوا ببطشهم أرض القاهرة في ١٤ سبتمبر سنة ١٨٨٢. فنشأ الرجلان في حقبة من الدهر كان البلاء فيها محيطًا بالأرض التي ولدا فيها وبسائر بلاد العربية. وكان البارودى يومئذ قد نفي إلى جزيرة سيلان بعد أن استسلم للغزاة كما استسلم إخوانه من رجال الثورة العرابية، وخلا بِغَيْبَتِه ميدان الجهاد من شاعر يؤرث أحقاد أمته على الغزاة، أو يرفع لعينيها أهدافًا نبيلة سامية تندفع إلى بلوغها، أو يملأ قلوبها أشواقًا إلى التحرر من طغيان الغزاة وغطرستهم واستبدادهم.
وقد فُتِن هذان الشابان بالشعر منذ حداثتهما وطلبا أن يكونا شاعرين مذكورين كما كان إمامهما البارودى، فإن البارودى كان قد حطم ذلك الوهم الراسخ الذي لم يزل يملأ قلوب الشعراء هيبة تحجم بهم عن الطمع في بلوغ مرتبة الأوائل القدماء في الشعر: من قِبَلِ لغته وجزالتها، ومعانيه وجدّتها، وأغراضه وحداثتها. فأرهف هذا المثل الحي إحساس الشابين، فانطلقَا يطلبان الشعر من معادنه الأولى كما فعل البارودى: طلباه من دواوين شعراء الجاهلية وصدر الإسلام إلى ما وراء العصر العباسى. وتم لهما ما أرادا، فأجادا اللغة وتتبعا ألفاظها، وحرصا على اختيار جيد الكلام واحتذاء مِثَاله في أغراض عصرهما،