تفكيره وبحثه، وإذا هو مكن في قلبه ونفسه الطاعة لما تركه لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أدب كان يؤدب به أصحابه ممسكا بِحُجُزِهم أنْ: هلموا عن النار!
وعلمُ ضمائر خلق الله علم قد استأثر به ربنا سبحانه علامُ الغيوب. ومع ذلك، فلست أغالى شيئًا إذا زعمتُ لك أن أكثر من ثلاثة أرباع تاريخ الدنيا، لم يجتمع ولم يتكوَّن ولم يصبح عملا في الأرض، إلا من خفيات هذه الضمائر. ونحن حينَ نرى نتائج أعمال البشر، والتي نزعمها أو نسميها تاريخًا، لا نرى إلا أثرًا شاحبًا متهافتًا مما استسرّ في جوانح خلق الله. وهذه الآثار ربما تشابهتْ عندنا تشابهًا غريبًا، مع أن الأسباب التي أحدثتها تختلف في حقيقتها وطبيعتها كل الاختلاف. فإذا خفيت الأسبابُ وتشابهت الآثار، فإجراءُ حكمٍ واحد على هذه الآثار المتشابهة خطلٌ وسوء رأي، وإعظامٌ في الفرية على الناس الماضين، وإغراقٌ في التضليل بالناسِ الحاضرين. وأنا لا أحيلك في معرفة مصداقِ ما أقول إلى التاريخ الماضي، بل إلى ما تشهدهُ بعينيك، وتسمعهُ بأذنيك، وتدركهُ ببصيرتك وفكرك من أحوال الناس الذين تعاشر، والتاريخ الذي يصنع الآن بمرأى منك ومسمع، ساعة بعد ساعة، ويومًا بعد يوم. فانظر كيف يحكُم الناس بعضهم على بعض، وكيف يفسر بعضُهم أعمالَ بعض، فإذا صح هذا عندك وتأملته، علمت لم أوثر أن أدعوك إلى تصوّر أزمنة التاريخ وخلائقه، تصوُّرًا طويلا عريضًا متراحبًا، يكاد يثبط الفكر الإنساني عن العناية به والإلحاح عليه.
وهذا الأصلُ الذي يكادُ يبلغُ مبلغَ البديهيَّ، أصلٌ متروك في التأريخ الحديث. وذلك لأن حضارة هذا القرن العشرين المتحدّرةَ من عصور المدنية الأوربية الوثنية والمسيحية، قد انبثقت من ضرورات اجتماعية وأخلاقية ودينية، لا يمكنُ أن تدع لمثل هذا الأصل مكانًا في التصوُّر، إلا شعاعًا ميتَ النور، ربما انبثَّ في بعض ما يؤلفون، محاطًا بظلمات شديدة من الجرأة والتهجم والافتراء والرجم بالغيب، والمبالغة في اعتداد المؤرخ منهم بنفسه، والإفراط في ثقته بقدرة عقله، والغلو في تحكيم ما يدَّعيه وما يفرضه على مادَّة التاريخ ورواياته، بغير بينة ولا حُجة.