والاستراتيجية، في أرض معناه إهدار ما يماثلها من مصالح، هي حق أصيل لهذه الأرض وسكانها، وأن الأجنبى المعتدى على هذه المصالح، لا يعتمد في صيانتها إلا على أن يسلب سكان الأرض مقدرتهم على أن تكون لهم مصالح تنازع مصالحه، ومعنى هذا أنه يعتمد على استعباده، ويرتكب في سبيل ذلك كل وسيلة تؤدى إلى أن يجعل سكانها في مرتبة الخدم والأذناب والماشية، فإن لم يفعل، فمنطق الاستعمار يدل على أنه مستعمر شديد الغفلة، لو سمح لأي عنصر من عناصر القوة أن تنازعه في هذا المكان، وأكبر عناصر القوة، هي: الحرية.
فتصوير المشكلة إذن خطأ كله، فمشكلة السودان أو مشكلة مصر -كما يحلو لك أن تسميها- ليست في هذه الصغائر، بل هي أكبر. هي مشكلة إهدار الحياة الإنسانية الصحيحة، والعمل على بث حياة إنسانية فاسدة منحطة، هي مشكلة ضياع الحرية، وسلب الشعوب كل مقوماتها التي تعينها على أن تكون أمما حرة، هي مشكلة تدليس الحياة على الشعوب، حتى تتصور الباطل القبيح، حقًّا جميل الصورة، هي مشكلة إحلال المنافع العاجلة التي تستهلكها الشعوب في حياتها اليومية، محل المنافع الباقية التي تحيى بها الأمم وتقوى وتستمجد.
ونحن لا نطالب بضم السودان إلى مصر، بالمعنى الذي يفهمه ساسة هذا الجيل، ولا أن يحكم السودان من القاهرة أو الخرطوم، أو بالعكس، فإن هذه كلها معاني فاسدة في التعبير، إننا -مصر والسودان جميعا- نريد أن نتحرر من المصالح البريطانية. . . اقتصادية وسياسية واستراتيجية، لتنبعث من قبورها مصالحنا نحن، اقتصادية، وسياسية، واستراتيجية، ولن نصل إلى ذلك إلا باسترداد حريتنا، التي أهدرت في كل شيء، وإنسانيتنا التي أبيدت في كل عمل، وفضائلنا التي ألغيت في كل شأن من شئون الحياة، ونحن لا ندعو إلى هذا في مصر والسودان وحدهما، بل في كل أرض من أراضي بلاد العرب والمسلمين، وغير العرب والمسلمين، افترستها الوحوش الاستعمارية الطاغية في العالم، التي جعلت المصالح الاقتصادية والسياسة والحربية مسوغا تستحل به إهدار الحرية، وإهدار الكرامة، واستعباد البشر.