الإنسانية. فإذا أقررنا أن الحرب إنما تتدافع في صدور الأدباء والشعراء ورجال الفن لتكون كالتيار الذي يتدافع بالبحر فينشئ له الأمواج المتصارعة المتدفقة مخافة أن يركد فيأسن، لم نجد بُدًّا من اعتبارها كالمدد للمعاني الخائفة التي تنزوي في كهوف النفس الإنسانية السامية الطامحة، تجرّؤها وتذمرها وتؤلبها من هنا وهنا لتتعارف وتتساند وتندفع إلى غمارها مجدة إلى المثل الأعلى الذي هو أحلام النفوس الرفيعة الدائبة أبدًا إلى الأغراض النبيلة.
فإذا كان ذلك كذلك، فأثر الحربِ إنما هو تنبيهٌ للمعاني والأغراض التي تحيك في صدور الأدباء والشعراء، وتطريقٌ للمسالك الغامضة التي يراد منهم أن يمهدوها ويكونوا أدلاء للناس في مجاهلها ومنكراتها. إن الصحف اليومية الأخبارية عليها أن تمد الناس بأخبار الحرب وصفاتها وصفات بلادها المتحاربة، وعواقبها الدانية أو البعيدة لأحداثها، ولكن مهمة الأدباء الذين يمارسون تحرير المجلات الأدبية أن يتعقبوا مَعاني أسْمَى من هذه المعاني المبتذلة التي توضَعُ عن أفكار الناس حين تضع الحرب أوزارها، عليهم أن يسبقوا أحداث الحرب بتمهيد جديد إلى حياة أخرى تبرأ من الغرائز الدنيئة التي دفعت العالم إلى هذا الشر البغيض الذي لا غرض له إلا استبداد السلطان، واستعباد الناس بعضهم لبعض. وإذن فهم -لابد- يبحثون عن العلل والأمراض التي داخلت المدنية الحديثة، فجعلت قوة الافتراس فيها هي الأصل الذي بنيت عليه عقائدها وأعمالها، غير متحيزين إلى فئة بعينها، فإن الأسلحة المشرعَة الآن في جميع الصفوف لن تعرف بعدُ معنًى إلا معنى الحرب وحدها بوحشيتها وجوعها وقرمها. . . لن تعرف إلا الدَّمَ وشهوة الدم، وتنقرض العواطف الرقيقة التي تملأ النفس ورعًا وتقوى وحنانًا. وإذا استبان لهم مكنون هذه العلل استطاعوا أن يمهدوا السبيل للحياة الجديدة المبرأة من أسبابها الباغية، فمنعونا شرها ثم شر الآثار والعواقب التي تأبى شياطين الحرب إلا أن تزينها للباقين والناجين من أحلاسها (١).
(١) أحلاسها: شرورها اللازمة. المفرد: حِلْس، وأصله كساء يوضع على ظهر الدابة، فهو ملازم لها أبدًا، فقيل للفرسان المقاتلين الذين يلزمون ظهور خيولهم: أحلاس الحرب.