تنويع مجرى النغم، والبحر الأول وضعه الشاعر، وأجزاؤه:"فاعلاتن مفاعلتن" مرتين وليكن اسمه "المنطلق" انتهى.
وصديقنا بشر شخصية جوالة في معاني الدعَة والرقة واللطف والظرف والابتسام والمرَح، وسائر هذه الكلمات الراقصة بألفاظها قبل معانيها. وهو كالبحر الذي زعم أنه اخترعه وسماه "المنطلق". . . فهو منطلق في كل أشياء الحياة بأحلام كأحلام الليل جميلة هادئة ساكنة. . . ولكن إذا فجأها النهار تطاردت له هاربة وقد تركت آثارها أخاديد نديّة كذكريات الحبيب الهاجر في قلب العاشق. . .
وهذا البحر "المنطلق" كما يسميه، قد أرسله على مثل هذه الأبيات:
"جَنِّبوا الناي عن أُذني ... أُذُني زلزلتْ طَرَبا
مثلَ قلب تُحَدِّثهُ ... سرَّه السرْدُ فاضطربَا"
وقد زعم "بشرٌ" أنه وضعه، ونحن نُسلِّم لبشر ما يقول، ولكن أصحاب العَروض هم أبدًا كبحورهم لا يهدأون، فقد زعموا أن الأخفش قد تدارك على الخليل بحرًا سموه "الشقيق" يزعمونه أخا "المتقارب"، وسموه المحدث والمخترع والخبب إلى غير ذلك وعُرف عندنا باسم "المتدارك" -أي الذي تداركه الأخفش على الخليل بن أحمد- وأصل تفاعيله عندهم:"فاعلن، فاعلن، فاعلن، فاعلن" مكررة، وله عروضان تامة ومجزوءة، فالعروض المجزوءة هي:"فاعلن، فاعلن، فاعلن" مكررة.
وهذه العروض المجزوءة من بحر المتدارك، هي زنةُ شعر بشر قد دخلها من رِقَّتِه ما جعلها تتأوّد عند قوافيها لتستريح؛ فالبحر ليس إذن "منطلقًا"، ولكنه "خليع المتدارك".
وسائر أبيات القصيدة في قوله مثلًا:
"أوتار الخاطر تغمزها ... أَنَّاتُ الناي فترتجف"
هي أيضًا من عروض المتدارك التامة دخلها التشعيث والخبن كقول ابن حَمديس: