للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عرفت الرافعي معرفة الرأي أول ما عرفته، ثم عرفتُه معرفة الصحبة فيما بعد، وعرضْت هذا على ذاك فيما بيني وبين نفسي فلم أجد إلا خيرًا مما كنت أرى، وتبدَّت لي إنسانيةُ هذا الرجل كأنها نغمة تجاوب أختها في ذلك الأديب الكاتب الشاعر، وظفرت بحبيب يحبنى وأحبه، لأن القلب هو الذي كان يعمل بيني وبينه وكان في أدبه مسُّ هذا القلب؛ فمن هنا كنت أتلقى كلامه فأفهم عنه ما يكاد يخفي على من هو أمثلُ مني بالأدب وأقْوم على العلم وأبصَر بمواضع الرأي.

وامتياز الرافعي بقلبه هو سر البيان فيما تداوله من معاني الشعر والأدب؛ وهو سرُّ حفاوته بالخواطر ومذاهب الآراء، وسر إحسانه في مهنتها وتدبيرها وسياستها كما يحسن أحدهم مهنة المال ورَبَّه والقيامَ عليه؛ وهو سر علوِّه على من ينخشُّ في الأدب كالعَظْمة الجاسية تنشبُ في حلق متعاطيه، لا يُبقى عليه من هوادة ولا رفق، وبخاصة حين يكون هذا الناشب ممن تسامى على حين غفلة يوم مَرِج أمرُ الناس واختلط، أو كان مرهقًا في إيمانه مُتهمًا في دينه؛ إذ كان الإيمان في قلب الرافعي دمًا يجرى في دمه، نورًا يضئُ له في مجاهل الفكر والعاطفة ويسنِّى له ما أَعسر إذا تعاندت الآراء واختلفت وتعارضت وأكذبَ بعضُها بعضًا.

هذا، وقد أرخيت للقول حتى بلغ، وكنتُ حقيقًا أن أغور إلى سرّ البيان واعتلاقه من العاطفة والهوى في قول الشاعر والكاتب والأديب لأسدِّد الرأي إلى مرماه، وقد يطولُ ذلك حتى لا تكفي له فاتحة كتاب أو كتابٌ مفرد، فإن البيان هو سرُّ النفس الشاعرة مكفوفا وراءَ لفظٍ، وما كان ذلك سبيله لا يتأتى إلا بالتفصيل والتمييز والشرح، ولا تُغني فيه جملة القول شيئًا من غناء. وحقيقٌ بمن يقرأُ هذا الكتاب أن يعود إلى كتب الرافعي بالمراجعة فيستنبئها التفصيل والشرح، وبذلك يقع على مادة تمدّه في دراسة فنون الأسلوب، وكيف يتوجهُ بفنّ الكاتب، وكيف يتصرف فيه الكاتب بحسٍّ من قلبه لا يخطئ أن يجعل المعنى واللفظ سابقين إلى غرض متواطئين على معنى لا يجوران فيجاوزانه أو يقعان دونه.