الأستاذ منهم عمره كله في هذا "التلخيص"، دون أن يشعر أنه محفوف بالأخطار، ودون أن يستنكف أن ينسبة إلى نفسه نسبة تجعله عند الناس (أي عند العرب) كاتبا ومؤلفا وصاحب فكر، وهذا ضرب من التدليس كريه (مقدمة المتنبى ص: ١٦٣)، وهذه خصلة شنيعة.
والأخرى: سُنَّة "السطو" المجرد، حين يعمد الساطى إلى ما سطا عليه فيأخذه ويمزقه، ثم يغرقه ويفرقه في ثرثرة طاغية، ليخفي معالم ما سطا عليه، وليصبح عند الناس صاحب فكر ومذهب يعرفه به، ونسب إليه كل فضله (مقدمة المتنبى ص: ١٦٣) وهذه خصلة أشنع من الأولى.
ثم قلت:"أتلفَّت اليوم (سنة ١٩٧٧) إلى ما أشفقت منه قديما من فعل الأساتذة الكبار، لقد ذهبوا بعد أن تركوا، من حيث أرادوا أو لم يريدوا، حياة أدبية ثقافية قد فسدت فسادا وبيلا على مدى نصف قرن، وتجددت الأساليب وتنوعت، وصارت "السطو" على أعمال الناس أمرا مألوفا غير مستنكر، يمشي في الناس طليقا عليه طيلسان "البحث العلمي" و"عالمية الثقافة"، "والثقافة الإنسانية"، وإن لم يكن محصوله إلا ترديدا "لقضايا غريبة، صاغها غرباء صياغة مطابقة لمناهجهم ومنابتهم ونظراتهم في كل قضية، واختلط الحابل بالنابل، قُل ذلك في الأدب والفلسفة والتاريخ والفن أو ما شئت، فإنه صادق صدقا لا يتخلف، فالأديب "عندنا" مصور بغير قلمه والفيلسوف "عندنا" مفكر بعقل سواه، والمؤرخ "عندنا"، ناقد للأحداث بنظر غريب عن تاريخه، والفنان "عندنا" نابض قلبه بنبض أجنبى عن تراث فنه (مقدمة المتنبى ص ١٦٤).
وهذه الخلاصة التي ختمت بها مقدمتى ومنذ أولها -نتيجة لأشياء ذكرتها، وأطلت في ذكرها وأسبابها ونتائجها، وعلى رأسها قصتى أنا مع الدكتور طه حسين في الجامعة، حين سمعت بأذنى من فم الدكتور طه كلاما كنت قد قرأته بالإنجليزية في إحدى المجلات، كتبه مستشرق غريب الشكل والعقل والأطوار يقال له "مرجليوث" فإذا الذي أسمعه، هو نفس ما قرأته قبل أن أسمع ما سمعت، ولكى سمعته بلفظ عربي مُسْتجاد، وبإلقاء أستاذ بارع تصغى إليه